قصة أنفي.. للاديب عبد الغني حمادة
زي بوست
وجهي جميل متناسق القسمات ، هادئ الملامح ، أستحق لقب ملك الجمال لو لا أنفي غريب الشكل والخلقة، إنه لا يشبه أنف أحد في عائلتنا، وربما في قريتنا، بل قد لا يشبه أنف أحد في العالم، ولو أن أبي تقدم بطلب لموسوعة ( غينيس ) لدخلتها من أوسع أبوابها بأنفي المفلطح الكبير!!
الداية (أم صالح) نصحت أمي بالضغط على أنفي كيلا يتضخم، وخاصة في السنتين الأوليتين من عمري:
– اضغطي ما استطعت على أنفه ..
– يكاد الصغير يختنق يا أم صالح!!
أنفي المفلطح لم يعجب أبي، وكان يخجل ويغتاظ جدا حين يسأله أحدهم :
– كيف أحوال أبو ( مناخير ) ؟؟!!
صار هاجسي، ومحور أحاديث الأهل والجيران والأقارب، هو أنفي الذي يأخذ ثلث مساحة وجهي …
في الخامسة من عمري، أخذتني أمي إلى شيخ الجامع لأتعلم القرآن والجزء الرشيدي، بعد أن تركتني أمي عند الشيخ ( عيسى ) بتوصية جهنمية:
– اللحم لك والعظم لنا ….
– بل قولي الأنف لي، والباقي لكم ….
من العادات التي اكتسبتها هي اللعب بأنفي، فأضم أصابعي الواحدة تلو الأخرى في فتحتي أنفي … الإبهام والسبابة في فتحة والخنصر والبنصر في الفتحة الأخرى وأترك الوسطى محررة فوق الأنف تهتز للأعلى والأسفل بحركة استفزازية …
عدم انتباهي لقراءة الشيخ، وعبثي بأنفي، جعله يحنق علي، ويسألني:
– أعد ماكنت أقرأ يا أبو (مناخير) …
– ….. لا أعرف …
فرك أذني بحصوة صغيرة، ثم أمسك أنفي بعد أن غطاه بمنديل ..
– يخرب بيتك على هذا الأنف، تقول مناخير بغل …
لم أغضب، لأن الدم نفر من أذني، بقدر غضبي منه حين شبه أنفي لمناخير البغل، ماذنب البغال لأتشبه بها، وليكون الأنف قاسما مشتركا بيننا!!
جرجرت أذيال الخيبة حانقا على الشيخ (عيسى) وتشاغلت بنزيز الدم من أذني، وقفت مواجهة للشيخ، خلف الطلاب، ووزعت أصابعي في منخاري وتركت الوسطى تهتز بتلك الحركة المعيبة، ثم أطلقت ساقي للريح.
كانت المدرسة أرحم من ( دكة ) الشيخ عيسى وأرحب، مع أن عدد طلاب المدرسة أضعاف طلاب الشيخ الذي كرهني القراءة والكتابة …
كنا خمسة وثلاثين طالبا في الصف بأحجام متنوعة، إلا أنني أبدو أضخمهم، وأطولهم، وأعظمهم أنفا، وهذا سبب كاف لتكون الزاوية البعيدة عن السبورة مكاني بدون منافس.
معلمنا الأصلع أحبني من أول نظرة، بل من أول قرصة أنف!!
– من أين اشتريت هذا الأنف الرائع؟
– لا أعرف، سأسال أمي، وغدا أرد لك الخبر …
ضحك المعلم، مؤازرا من الطلاب الفرحين بأنفي أكثر من الكتب الملونة التي استلمناها …
أحببت المدرسة حبا جما، وأحببت معلمنا الأصلع، الذي مهما كان متضايقا أو غاضبا، فما إن يراني حتى يسرع إلي باسما:
– دخيل هالمناخير، (مع طبطبة خفيفة على أنفي المسترخي بأعطافه على فمي) …
فأبتسم ابتسامة بحجم المدرسة، لكن ما أسعدني أكثر هو حين أصبحت من الوسائل التعليمية في المدرسة لجميع الصفوف، فكل درس يذكر فيه الأنف سيطلبني معلم الصف ليشرح لطلابه عن أقسام الأنف، عشرات المرحات وشهادات التقدير حظيت بها بفضل مناخيري … أليس هذا جيدا!!
كم أنا محظوظ بهذا الأنف المفلطح الأكثر شبها بأوراق الملفوف كما قال معلمنا الأصلع. أجمل عام دراسي كان الصف الخامس، حينها صرت أفهم أشياء جديدة ترعش القلب، وخاصة عندما وجدت رسالة صغيرة في تجويف منخاري، فيها قلوب حب، وكلمات جميلة تدغدغ المشاعر والأحاسيس، إلا أن أشد التعابير فتكا، كانت:
– يسلموا لي مناخيرك التي تشبه طيات المخمل، غدا سأهديك وردة …
لم يأت ذلك الغد بتلك السرعة، زحف الليل حثيثا بطيئا، حتى كادت الشمس ألا تشرق، فكنت طيلة الليل أنظف أنفي، وأمسده.
ثلاث طالبات كن في الصف، ابنة المدير الطويلة الرفيعة الفاحمة كقطعة ليل شتوي، جميلة الملامح بعينين واسعتين ، وأنف رفيع مدبب كمنقار الإوزة ، وابنة معلمنا البيضاء العابسة دوما، ذات الأنف الأقنى،الذي يضيف جمالا على وجهها الوضاء فتبدو شهية أكثر من قرص ( المشبك )، وشعرها البني الذي يتراقص دوما على كتفيها يعتبر علامة فارقة، أما الثالثة وهي أكبرهم ، ويبدو ذلك من صدرها الناضج حديثا ، وجهها مبتسم بغمازتين ساحرتين على الخدين المنتفخين قليلا ، وأجمل ما فيها ذلك الأنف الدقيق ، وكأنه أحد الأحفاد الصغار لأنفي الكبير المترهل .
محظوظ من له أنف كأنفي ، جعلني من المشاهير ، ألا يكفي أنني اشتهرت في كل القرية ب ( أبو مناخير ) ، واعترفت ابنة المدير ذات الأنف الرفيع الطويل المدبب ، أمام أبيها وكافة المعلمين ، بأنها معجبة بي، بسبب أنفي المتميز الشكل.
يا إلهي كم أنا سعيد ، كدت أقطع أنفي بكل هيبته ، وأقدمه هدية لها حينذاك.
وفي لحظة ضعف اعترفت لي أن القرد الآسيوي ذا الأنف الكبير كلما كبر أنفه ، كلما ازداد إعجاب الإناث به!!
قفزت من فرحي كالقرد ووضعت أصابعي في أنفي وأنجزت تلك الحركة المعيبة بإصبعي الوسطى.
زيادة على ذلك فقد كان يشم الروائح من مسافات بعيدة ، وذلك ما جعلني أعرف كل ما يطبخ أهل الحي بمجرد استنشاقتين وزفرة ، لكن بنفس الوقت كانت تلك الحاسة مزعجة مقززة لي خاصة في صفوف المدرسة المكتظة بالطلاب وما يخرج منهم من روائح لحظات الخوف من المعلمين القساة.
لكن دوام الحال من المحال ، فما يجري في الصغر قد لا يناسبنا في الكبر.
فتبا لأنف كان سببا في رفض كل النساء التي تقدمت لخطبتهن ، حتى الأرامل والمطلقات رفضتني بكل صراحة:
– والله إذا بقيت كل عمري بلا رجل لا أقبل بأبي مناخير ..
– العمى يضربه ، كيف يأكل هذا الرجل ، وكيف ، وكيف ؟
– لو كان بلا آذان ، بلا عيون ، بلا بطيخ أحسن …
أجمل ما قرأت من قصص كانت قصة الأنف لغوغول ، وتمنيت لو أن أنفي يصبح ضابطا أو مسؤولا كبيرا يحكم بالعدل بين البشر … أما أجمل الأفلام فكان أنف وثلاث عيون … يااااه كم أسعدني ذلك الفيلم ثلاث نساء جميلات أحببن رجلا واحدا …
بقدر ما أسعدني أنفي في طفولتي وشبابي ، كان سببا لتعاستي في كبري ، فقد تهدلت أطرافه ، وتجعد ، وتقشر جلده ، وظهرت شعرات بين طياته حيرتني كيف أزيلها ، وصار تشذيب شاربي أمرا صعبا بسبب ارتخاء أنفي على شفتي ، الشعر الملتف داخل منخاري كان مزعجا ، وكأن عشرات الديدان تتحرك داخله ، وتجعلني أعطس رئتي وأقذفها من منخاري كقذيفة مدمرة …
في صغري ، كنت أطير من الفرح حين ينادونني بأبي مناخير، اختلف الأمر كثيرا في آخر أيامي ، لدرجة أنني بعت كل ما أملك لإجراء عملية تجميلية لأنفي، لا أعرف إن كانت ستنجح أم لا!!