كلّه صابون؟
أول مرة سمعت فيها مثل : (كله عند العرب صابون) كنت في الصف الثاني الإعدادي عام ١٩٧٨، كنت عائداً من مدرستي “إعدادية الشهداء” في حي “الفردوس” إلى بيتنا في حي “السكري” القريب، لم أرغب يومها في العودة إلى البيت مشياً على الأقدام كعادتي، فتوجهت إلى موقف باص النقل الداخلي في حي “المغاير” الكائن قرب معمل “البوظ” المشهور (قوالب الجليد/الثلج) ، و لحسن حظي وجدت بائع ثمرات “جوز الهند” يقف بعربته على الرصيف، و يصيح : نهود البنت يا جوز الهند! فرحت بوجوده قربي بدلاً من طَرْقِ مشوار إلى ساحة الكلاسة حيث يتمركز باعة جوز الهند الجوالين، أغراني بالشراء حالما سمعت النداء متخيّلاً نهود الكواعب الحسان بين يدي و تحت ناظريّ.
قلت له : • هاتِ نهداً، عفواً جوزة غضّة حلوة على القلب و اللسان . و بدأت أتفحّص الثمار واحدة تلو أختها، و أخضّها بلطف قرب أذني لأعرف أيها مليئة أكثر بالسائل الحلو الشفاف بداخلها، نهرني البائع بغضب واضح خوفاً من وقوعها على الأرض و كسرها بعد قيامه بتقشيرها كلها بالمطرقة و الإزميل.
قال لي : • حطّ من إيدك و حاج بلغصة (عبث) بالجوز، شو صدقت من كل عقلك إنهم نهود البنت؟ غمّض عينك و خذ وحدة، كله عند العرب صابون!.
• بس في صابونة ترغي، و صابونة تهري! •
هيك الدنيا ابن أخوي، أنت و سعدك في الدنيا و النسوان و جوز الهند.
أخذت نصيبي من الجوزات غير المقشرة، قلت له حاول أن تُبقي على نصف القشرة سليماً لأحتفظ به للذكرى، و ذهبت إلى بيتي لأكتشف سعدي (حظي) بجوزة الهند، كان لا بأس به و لله الحمد، أكثر من نصف الجوزة مليئ بالسائل الحليبي الحلو الشفاف، و الجوزة طرية وغضّة و لذيذة المذاق، تمنيت على أثرها أن يكون حظي في زوجة المستقبل مثل صابون الغار الحلبي المطيب بالعطر اللطيف على الجسم الشافي للروح و البدن، و جعلت نصف قشرة جوزة الهند (حظي في الدنيا والنساء) قصعة صغيرة أضعها على طاولتي لرمي الأقلام و القرطاسية الصغيرة فيها، و لتذكرني بحظي في المستقبل كيف سيكون .
أخرج زميلي الشاب “أحمد” موبايله من جيبه في الباوزة (الاستراحة بين ساعات الدرس) و فتح ملف الصور و سألني : أي صبية أجملهن؟ قلت له : لماذا تسألني؟ في نظري و عمري أراهن جميعاً أجمل من الورد.
قال مبتسماً بخجل العذارى : سألتك لأني أركن إلى رأيك عمي أبو شهد، سأخطب واحدة منهن و أتزوجها فيما بعد.
استغربت استمرار هذه العادة القديمة حتى اليوم، قلت له : يا أبني نحن الآن في نهاية عام ٢٠١٨ و لم تنقرض تلك العادة بعد؟ على زماني كنت أستنكر خطوبة الأهل للشب، كانت الأم والأخوات يطرقن الأبواب و يسألن هل عندكم بنات للخطبة؟ لقد ذكرتني ببعض المغتربين الذين كانوا يختارون خطيبتهم من خلال الصور التي يرسلها لهم الأهل بالبريد، و الآن مازالوا يرسلون لأبنائهم الصور عبر الموبايل و نحن في عصر الحرية و بلاد التحرر الأوربية؟ أترجع أنت بنا إلى عصر الكبت، أم لا تملك أمرك بيدك؟!
ضحك زميلي الشاب أحمد و قال بفخر : أنا لا أخالف رغبة أمي الحجة، قالت لي سأغضب عليك إذا ما تزوجت على كيفي.. ليش أنت كيف تزوجت يا عم؟ قلت له ساخراً : تزوجت على كيف بياع جوز الهند!
فغر فاهه و جحظَ عيناه بدهشة و قال: كيف ما فهمت عليك؟ شو علاقة بياع جوز الهند في جازتك أنت؟
ضحكت و أجبت : لقد قال لي في صباي غمّض عيونك و خذ جوزة، كله عند العرب صابون.
عقد أحمد حاجبيه باستنكار و قال : يعني طلع لك مرا في قلب الجوزة ؟
أكملت مزاحي قائلاً : تقريباً هيك صار، كتبت أسماء حبيباتي على قصاصات ورق و طويتها ثم وضعتها في قشرة جوز هند كنت محتفظاً بها كطاس، أغمضت عيناي و أخرجت ورقة من الطاسة (قشرة جوز الهند الخشبية) و فتحتها و قرأت الأسم، ثم توكلت على الله و تزوجت صاحبة الاسم.
قال أحمد و هو يهز رأسه : ها هاه و الله فكرة حلوة يا عمي أبو شهد، شي أنصرف من الكورس راح أعمل مثل ما عملت أنت، راح أعمل قرعة و أخْلَص من نقّ الحجة، ذاتن (أصلاً) كانت دوم تقول لي: (كل شي بيرغي عند العرب صابون ) …
ها هنا توقفتُ عن المزاح بعدما ركن زميلي لدعابتي و ارتاح، قلت له ناصحاً: لا تصدق كلام الحجة يا أبني ولا كلام بياع الجوز، شريكة العمر يجب أن تختارها أنت بنفسك و تتحمل مسؤولية اختيارك، فكن حريصاً على اختيار الصابونة الجيدة الطيبة على النفس، و احذر من الصابونة التي تؤذي البشرة و تفتك بالجسم، ليس كل ما يرغي صابون، أعرف أحدهم كان يرغي كثيراً في أول عهده ثم جلب لنا الطاعون!.
جهاد الدين رمضان في فيينا ٤ تشرين الأول/أكتوبر ٢٠١٩