العبور الأخير.. معبر الموت بحلب
زي بوست – محمود غزال
بعدَ آخرِ مُداهَمَةٍ للبيتِ قُلتُ لهم: غداً سَنعبُرُ إلى الطرفِ الآخر
تَجمَّدتْ، والدَهشَةُ ملأتْ مَعَالِمَها، واسْتَوطنَ الجحوظ مُقْلَتَي زوجتي
وهي تسأل:
محمود هلْ أنت جادٌ فيما تَقول؟!!
نعم سَنُخاطرُ، وإلا سَنَموتُ هُنا بِانتظارِ الموتِ, فَمَا الفرقُ إذاً؟
في الصباحِ وَصلنا إلى آخَرِ نُقطةِ تفتيش للنظام قبلَ العُبور.
صمتٌ كصَمتِ المقابر ، فقط حَفيف الأرجُلِ المُتَثَاقلةِ , المملوءةَ بالخوفِ، والمسكونةَ بالرعبِ.
صياحُ الشبيحةِ في وجوهِ النَّاسِ هوَ منْ يصخبُ سكونِ الموتْ.
(أربعُ حقائبٍ بأربعةِ آلافٍ، اِدفع أو اِنقلع… ولكْ حيوانْ)!!
هذا حالُ الشبيحةِ مع المُغادرين.
كُنتُ مُتفقاً مع شخص آخر ليحمُلَ أمتعتي، وكنتُ أتبعهُ تخفيفاً للشكوك حَيثُ سيتولى أمور الدفعِ وتخليص الأمتعة.
أتبَعهُ وعينايَ تتَعلَقانِ به أنتظرُ مُساعَدتِهِ في حالِ حدث شيءٌ ما.
أولادي عيونُهُم كانت على أمِهِمْ حيثُ الأمانَ الدائمْ، أما الزوجةُ فعيناها مُعلقتانِ بزوجِها خوفاً عليه من جهةَ، ولِتَحصُل على الطُمأنينة منه من جهةٍ أُخرى.
عَبرنا جماعة الشبيحة باتجاه الطرفِ الآخر، لم أكُن أتَخيل ذَلِكَ الرُعبْ أبداً!!…
الكُلُ مُطأطيءَ الرأسِ ويسيرُ بِمُحاذاةِ الجُدران بِانتظار القناصة التي تَختار من انتهى أجلُه..
أزيزُ الرصاصِ يملأُ المكان، تنظر بِطَرْفِ عينكَ ليسقُطَ بجانِبِكَ أحدَهُم
تُسرعُ الخُطا، وتحضن أطفالكَ دون أن يشعُرَ من كانَ على سَطحِ القصرِ البلدي جالِساً يستمتع بِما تَحصُدُ يداه ويَضحكُ مُقهقِهاً هو ورفاقُهُ حول الخيار الذي اختارَهُ من بينِ البشر.
نُسرعُ الخُطا نكادُ نُسابِقُ الريح، ولكن خطواتُنا كما هيَ وكأنَنا نجري في مكاننا!! يكادُ القلب يخرجُ من مكانهِ من كثرَةِ اللُهاثِ.
قبل الوصول إلى المعبرِ الآخِر بدأَ الرصاصُ مُلعلِعاً في السماواتِ والاراضين، انتزعتُ الاولاد وسحبتُهما إلى خَلفِ السِّتار، وسادَ المكان البكاء والصُراخَ وأنين الجرحى.
إنهُ ميلاد جديد لنا.. ومأساة لآخرين لم يوفَقوا بالعبور..
تِلكَ كانت آخر لحظاتي مع سورية الإجرام الأسدي
8/8 من عام الهجرة
siepost زي بوست 