يوسف سامي مصري: ألوان مُتعدّدة الشّحُوب


يوسف سامي مصري: ألوان مُتعدّدة الشّحُوب

زي بوست:

لقد حدث لأمينة ما لم يكن بحسبانها على الإطلاق، حيثُ عادت لبيت أبيها من جديد. خمسة شهور فقط قضتها أمينة في منزل زوجها أبو محمد، الذي يصغُر أبيها بقليل, ومع ذلك قَبِلت به زوجاً، لتهرب من جوها البائس، بسبب وجود زوجة أبيها الثانية التي تماثلها في العمر، وزوجة أخيها الكبير التي تعاملها كخادمة بلا أجر وترمقها بنظراتها المتفوِّقة.

خمسة وعشرون عاماً قضتها أمينة في منزل والدها، ولا تتذكر من حياتها إلا العناية بأمها التي أصابها الشلل الدماغي، بينما تصُوغ أحلاماً وردية عن فارس أحلامها الذي لوَّنته بألف لونٍ ولون، وأركبته أجمل فرس. ولكنها اكتشفت بعد أن قبلت بأبي محمد عريساً لها, أن عتمة منزلهم امتصَّت كل الألوان التي سكبتها على فارسها النبيل، وما تبقّى من كل الألوان لا يتعدّى اللون الأشهب لرأس أبو محمد.

لم تلبس أمينة عندما دخلتْ لأول مرة بيت زوجها أبو محمد بعد مراسم خجولة لما يشبه العرس، الثوب الحلُم، وكل ما كان متاحاً فستاناً غامق اللون فوقه معطف أسود يخفي مكامن الشهوة تحتَ الجسد الغض، ويمتصّ حتى الألوان التي بقيت في ذاكرتها.

انتظرتْ أمينة بسبب مرض السُّكر الذي يعاني منه زوجها، والذي تفاقم معه أكثر وأكثر ليلة الزفاف، أكثر من شهرين لتدخل عالم النساء وتترك ورائها ألوانها وأحلامها.

في تلك الفترة كان أبو محمد ينام في غرفة زوجته البالية أم محمد، فكان ذلك مناسبة نادرة لها لتنام في غرفة كبيرة لوحدها لأول مرة مع أحلامها وألوانها، وانشغلت من جديد بترميم ذاكرتها التي لم تُثقَب بعد، وإعادة تلوين فارسها النبيل الذي يبدو أنه أضاع الفرس والدرب وبهتت ألوانه وجفّتْ.

البارحة توفي زوجها أبو محمد بسكتة قلبية حادة، وفشلت كل محاولاتها في البكاء عليه وهم يُخرِجون جنازته من المشفى.
عادت أمينة بعد مراسم الدفن إلى بيت أبيها بذات الحقيبة وبنفس الثياب التي خرجت بهم عندما زُفت على عجل لأبي محمد .

عندما دخلت منزل أبيها، صدمتها رائحة العفونة المنبعثة منه، وكأنها تشتمها للمرة الأولى، وهي التي مكثت هنا خمسة وعشرون عاماً بدون أن تتأفف من هذه الرائحة مثلما فعلت اليوم.

دخلت غرفتها القديمة ورتبت أغراضها في الخزانة الحديدية التي كانت تتقاسمها مع أختها رضية، بعد أن أزاحت الثياب التي وزّعتهم أختها بترف واضح في أرجاء الخزانة، وجلست على طرف تختها القديم، وتفاجئت بصوته وهو يزكزك تحتها وذهب خيالها لسريرها المريح في بيت زوجها أبو محمد.

قطع دخول زوجة أبيها عائشة، لحظات تخيلها للهرَب من فكرة عودتها لمنزل أبيها، ومطَّت شفتيها امتعاضاً من رؤية أمينة وقد رتَّبت أغراضها في الخزانة.

علا في الخارج صوت ضجيج وبكاء من بيت جارهم أبو عُمر الملاصِق تماماً لمنزلهم، ودخلت أختها رضيّة ذات الأربعة عشر عاما وقد بدا على وجهها الخوف والقلق، وسألتها زوجة أبيها عمّا يجري في بيت أبو عمر فقالت أن الجيران يقولون أن أم عمر أصابتها جلطة دماغية وطلبوا لها سيارة الإسعاف واضطروا لحملها على الأكتاف، لأن السيارة لم تتمكن من الوصول للمنزل بسبب اكتظاظ المنازل.

كانت رضية تردّ على عائشة وصوتها يتهدَّج حزناً على أم عُمر، ويبدو عليها القلق. أما عائشة وأمينة فقد انفرجت أساريرهما في لحظة واحدة كأنهما متفقتان على ردّة فعلهما تجاه ما حدث لأم عُمر، وارتسمت ابتسامة واضحة على وجه الاثنتين، الأمر الذي فاجأ وأربك أختها الصغيرة رضية.

​ يوسف سامي مصري
اللاذقية

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s