رسالة إلى الله (مهداة إلى صديقي المرحوم محمد النعيمي الذي روى لي القصة وسمح لي بنشرها)
عبد الغني حمادة – زي بوست
باسمك اللهم أبدأ رسالتي إليك ..
اسمي فاطمة وينادونني عرفا فطومة ، بلغت الثامنة والعشرين من عمري ، منذ شهر رمضان الماضي ..
منذ عشر سنين تزوجت بابن جارنا عبدو ، ذلك الرجل البسيط المعدم ، وسكنا في غرفة مع أهله ست سنوات ، بلا مطبخ ولا حمام ، وأنجبت أربعة أولاد ، ولا أخجل إن قلت ، أننا كنا نغتسل في عتبة البيت ..
ثروتنا الوحيدة كانت بقرة ، كنت أحبها وأدللها كأولادي ، إنها روح مثلنا يا الله …
بعنا البقرة ، واستدان عبدو بعض المال ، وبنينا غرفتين مع مطبخ بسقف من التوتياء ، طبعا بلاحمام ، فالبركة بالعتبة، رغم ذلك كنت أراهما أجمل من قصر ابن ضيعتنا ، ابو سومر ، موظف الجمارك .
وهكذا استمرت حياتنا ، ببساطتها ، وأنت تعلم كل تفاصيلها ..
عبدو يعمل في العتالة ، وأنا مع عمال الزراعة المياومين بكل مواسمها ( بطاطا ، قمح ، زيتون ، عنب وبطيخ ) وكنا سعداء رغم التعب …
قامت الثورة فانخرط عبدو في المظاهرات وترك الشغل . ثم اقتنى بارودة ، لا أعرف كيف تدبرها ، وانضم لصفوف الجيش الحر ..
مرتبه الشهري كان في البداية بحدود العشرة آلاف ليرة سورية ، ثم زاد حتى الثلاثين ، مع سلة غذائية نعيش بها الكفاف .
وأريد أن أخبرك أيضا ، بأننا لم نهاجر إلى تركيا بحجة التمسك بالأرض ، أو عشقا بالوطن ، كما يكذب عليك غيرنا ، لا وعزتك وجلالك ، الحقيقة هي أننا لم نهاجر لأننا لم نكن نملك أجرة المهرب الذي سيعبر بنا الحدود إلى تركيا .
منذ سنة ونصف تقريبا ، وبينما كنا نتناول الغداء في البيت سمعنا هدير طائرة تحوم في الجو ، وفجأة كأن الأرض اقتلعت ، شيء كالزلزال قلب الأرض فجعل عاليها سافلها ، فغطى الغبار كل شيء ، واختلط بالدخان والنار ، حاولت الوقوف لكنني عجزت ، انهارت مفاصلي ، ولم أعد أرى شيئا ..
بعد قليل سمعت أصوات الناس وتكبيراتهم ، فعلمت أن برميلا متفجرا قد أسقطته الطائرة الحربية على بيتنا ، فهرع شباب الحارة لإنقاذنا ، كنت أسمع أصواتهم وأصوات اصطدام أقدامهم بالحجارة المتناثرة :
– أرجوكم اتركوني ، شوفوا أولادي ..
وعزتك وجلالك ، خجلت أن أطلب منهم أن يبحثوا عن عبدو ، أو ربما نسيت ذلك !!. فهول المصيبة أفقدني اتزاني آنذاك .
نقلونا الى خيمة ، قالو إنها مشفى ميداني ، جبروا لي رجلي الاثنتين، وعالجوا جروح الأولاد الذين كانوا لا يهدؤون عن البكاء والشكوى من الألم . بعد يومين أخبروني أن عبدو مات ، استشهد ودفنوه في مقبرة القرية ، احتسبت أمري لك ، وأنت تعرف كم بكيت وتألمت .
وبعد شهر من إقامتي عند ابن حماي ، توجب علي الرحيل لأن الوضع وصل لحافة الطلاق بينه وبين زوجته ..
ناجيتك حينها ، يا إلهي إلى أين نذهب ؟!!.
أخي الوحيد في تركيا ، وأختاي لجؤوا إلى ألمانيا منذ سنتين ، والأخت الثالثة تزوجت في تركيا أيضا …
كنت كل فجر أنتظر شروق شمس جديدة ، وأنتظر يوما جديدا لتكتب لي فيه الفرج ، وتنقذني من الضياع والتشرد .
مازلت في العدة ، ورجلاي في جبيرة الجبس ، ومعي أربعة أولاد لا ذنب لهم في هذه الحياة الصعبة ؟!!.
مجبرة ، مكسورة القلب ، امرأة بلا روح ، ممتلئة بالقهر ، دخلت أحد المخيمات الحدودية في أطمة ، ورغم معرفتك بكل ما يدور فيها ، لكن لابأس أن أكتبها في رسالتي ، مندوب منظمة يأخذنا ومدير جمعية يبعدنا ، هذا يعطينا سلة غذائية ويصور ، ويطلق الوعود ، ثم يذهب ولا يعود . استمر ذلك الحال حوالي خمسة أشهر من الموت إلا قليلا ، كنت أحس أنني لا حية ولا ميتة ، بمايشبه الموت السريري . بعد أن بلغ الذل والقهر مداهما ، قررت أن أغامر بالهروب كغيري إلى تركيا ، رغم خطورة العبور بطريقة غير مشروعة .
أعرف أنك أرسلت لي من تبرع لنا بأجرة المهرب عبر الألغام والأسلاك الشائكة .
رحلة عبور الشريط الحدودي كانت شاقة وخطرة جدا ، تعذبنا كثيرا ، وانتظرنا يومين في ظروف لا تطاق من الحر والجوع والخوف والملل والقلق .
تجاوزنا للشريط كان بمثابة ولادة جديدة ، لكن إطلاق الرصاص علينا من حرس الحدود جعل قلوبنا تتوقف من الذعر والهلع ، نحن هربنا من النار والقتل والذل والقهر ، فلاحقتنا بنادق الموت إلى هنا !!.
تمسكنا بخيط من الأمل ليبقينا على قيد الحياة ، فواجهنا شبح الموت بكل قسوة .
هرب الجميع وبقيت لوحدي مع أولادي في الحرش في ذلك الفجر الموحش .
شكرا لك يا الله لأنك أنقذتنا من ذلك الجندي الذي رآنا في تلك الحالة من الخوف والذعر والارتباك ، أجزم بأنك أرسلت لنا ملاكا لكنه بصورة جندي ، لقد تركنا وتابع سيره وكأنه لم يرنا !!. بقينا نزحف في الحرش بين الأشجار لليوم التالي ، حتى وصلنا لأول قرية تركية في حالة يرثى لها ، كنت واثقة من أنك لن تتركنا ، فقيضت لنا رجلا نقلنا بسيارته إلى إحدى حدائق مدينة الريحانية .
رغم مرور يومين دون طعام ، فقد كنت كالدجاجة ، تشرب الماء وترفع رأسها شاكرة ، وكنت أدعوك أن تنقذني مما أنا فيه من ضيق وقهر ، وأن تلبي حاجتي وتسترني.
فجأة توقفت سيارة بيضاء ، نزل منها شخص مربوع القامة ، جلس قربي ، وسألني عن وضعي ، حكيت له قصتي باختصار . فما كان منه إلا وأن بدأ يحثو التراب على رأسه الأصلع ، وراح يبكي ويقبل أقدام أولادي المتشققة والمتعفرة بالتراب ، أما أنا فقد توزعت بين الضحك والبكاء ، وقلت في نفسي :
– يا ويلي لقد جن الرجل ، انهبل المسكين !!.
ولأنني مازلت أعاني من الكسور فقد حملني بين يديه كطفل ، وضعنا في سيارته ، عرض علينا الاستضافة في بيته لكنني رجوته أن يوصلنا إلى بنت حماي المقيمة في هذه المدينة ، وبعد عناء وصلنا إلى العنوان ، سألته عن اسمه :
– أنا أبو أحمد …
في اليوم التالي جاء برفقة زوجته ، أعطاني مبلغا من عشر قطع ورقية خضراء ، أمسكها لأول مرة في حياتي ، فيما بعد عرفت أنها ألف دولار .
أكمل أبو أحمد معروفه ، فاستأجر لنا بيتا مجهزا بكل شيء . كم كان شهما لدرجة أنه لم ير وجهي المغطى بالنقاب !!. فقط كان يميزني من صوتي ولهجتي ، وفوق ذلك كان يتابع علاجنا في المشافي .
ضاقت علينا الدنيا بعد انقطاع أخبار ذلك الرجل الشهم . فتركنا البيت ، وبعد وساطات وتوسلات ، دخلنا المخيم مرة أخرى .
أريد أن أخبرك بكل صغيرة وكبيرة يا الله ، هذه هي الرسالة الثانية التي أكتبها في حياتي ، فالأولى كانت لعبدو أثناء خطوبتنا ، اتفقت معه أن أضعها له في التنور ، كي يأخذها في اليوم التالي ، لكن أمي سبقته وأشعلت التنور ، فاحترقت الورقة دون أن يراها عبدو آنذاك . وهذه الرسالة أيضا سأحرقها بعد كتابها كونك قرأتها !!.
أريد أن اعترف لك يا الله بأنني أشتاق لعبدو كل ليلة ، وأرفض الزواج من أي رجل آخر ، رغم أنه تقدم لي خمسة مدراء منظمات ، وثلاثة مندوبي إغاثة ، ولأنني وعدتك أن أخبرك بكل شيء ، سأكتب لك عما حدث لي مع مدير المخيم ، فقد راجعته بكل ذل وانكسار وطلبت منه مساعدتي ، فأهملني مرتين ، لكنه عندما أحس بحاجتي قال لي :
– مكاني وتعرفينه ، أنتظرك بعد منتصف الليل !!. عدت باكية ، لا أكاد أرى طريقي ، سألني أطفالي عن سبب البكاء ، فقلت لهم :
– لقد تعثرت قدمي على الطريق ، لكني لم أسقط بعد يا أبنائي ..
قررت ألا أسقط يا الله .
فأرجوك قل لي يارب ماذا أختار ؟!!.
جوع أطفالي ، أم أذهب إليه ليلا ؟!!.
التوقيع فطومة ….