اللوحة: جان دومينيك ميتسينغر(موقع رصين)
امرأة .. وكأس شاي
زي بوست:
أراد أن يكون من أوائل من يغتنم مزايا سياسة الانفتاح بعد عقود من الكبت والقهر والتحجّر.
دعاها لمطعم راق بني على تلّة في خليج صغير على شاطئ جدّة، جلسا لطاولة تطل على البحر، الوقت قبل الغروب، والشمس بدأت تبلل خصلات شعرها الذهبي بمياه البحر الأحمر.
يكادان يكونان الوحيدين في الصالة، فالشباب لم تعتد بعد على الخروج بشكل مختلط دون أن تلاحقهم خيزرانات المطاوعة.
طلب لها شاياً فاخراً، أوقد النادل شمعةً حمراء وغرسها في قلب الطاوله، ثم داعب بطرف يده المكسوة بقفاز قطني ناصع البياض طرف وردةٍ جورية كان قد أزاحها قليلاً لأحد الجوانب ليتسع المكان للشمعة.
عبيرالوردة لم يحل دون أن يصلهما عبق الشاي السيلاني، يحمل النادل الشاب دلّته الفضية البراقة وهو متجهٌ صوبهما.
سكب النادل فنجاني الشاي، ونثر ورقة حبق لتسبح على متن كل منهما.
توجه الشاب بكل جوارحه نحوها، أرسل ابتسامة صاخبةً وبكماء بآنٍ معاً، برقت عيناه وهي تحاول دعوتها لتناول الشاي بكل تودد.
تناولت السمراء فنجان الشاي المصنوع من أفخر أنواع خزف لاهاي الأزق، أمسكت القفص الفضي المزركش الّذي يحوي الفنجان بيديها الاثنتين، قرّبته بتؤدّةٍ من شفتيها العنابيتين، فيما كانت عيناها تسبران تعابير وجه الشاب المتدفقة، بالكاد تحاول فك رموز رقصات صاريي فمه المبهمة تارة، نحو اليمين وتارةً نحو الشمال.
فجأةً يصحو الشاب من توهان وجده، يلتقط فنجانه وهو يتكلّف إخفاء ارتباكه الذي كاد يغرقه بعرقه بعد أن نضح بفعل الرومانسيه التي تلبّسته من غير سابق عهد بها.
يتناول كل منهما سحمةً من فنجانه، تعيد فنجانها بتسارع لمكانه فتتحرر كلتا يديها، يجدها الشاب فرصة لينقل لها بعضاً من تيار النشوة الذي يسري في أوصاله.
يبادر بتردد وشجاعةٍ متداخلين، فيمسك بإبهاميه وسبّابتيه رؤوس أصابع يديها التي تغطت بنقوش متمردةٍ من قلم حناء طوّعته ولاشك يدٌ خبيرة. تترك له العنان مستسلمةً، فيبدوان كأمٍ تقود صغيرها ليخطو خطواته الأولى.
يغلق مسامعه على أغنيةٍ يذوب صداها في القاعة مردداً:
(هلا بالخميس).
ينظر بداخل مقلتيها مباشرةً وهو يربو الولوج من خلالهما للبّها حيث السبيل.
تحضره كلمات نزار قباني المشهورة، فيرتّلها كما تلاها ذلك الأرستقراطي الدمشقي يوماً لبلقيس بابل:
– أأعجبك الشاي؟
تجيبه فتاته على الفور وهي تستلّ إحدى يديها لتضعها في أوسط جيدها المرمري وكأنها تجاهد ابتلاع لقمةٍ جافةٍ:
– معوّز سُكّر شوي!
يصعقه الجواب، يوقظه من حلم وردي ممزوج بندى المحيط، فيعيده لجلف الواقع وقحط البراري.
يترك يدها الثانية بدون أي شعور بالخسارة، يجفف فمه بالمنديل المنصوب في أعلى الكأس الكبير المجاور، يلتفت بسرعةٍ نحو الخلف باحثاً عن النادل، يجده بسهولة واقفا. هناك في الركن المقابل، متحفزاً لتلبية الطلب التالي.
– الحساب لو سمحت ..
يقولها للنادل بلهجةٍ فيها الكثير من الحزم ولكنْ الأكثر من الخذلان. يستجيب النادل بابتسامة ملؤها الاستغراب والدهشة.
يلتفت إليها مجدداً فيجدها مشدوهةً لا تدري ما الّذي جرى لينتهي المشوار هكذا قبل بدايته.
يقطع شرودها رجع صدى بضع كلماتٍ تمتم بها وهو يلملم أغراضه عن الطاولة هامّاً بالرحيل:
– قال نزار، وبحر، ورومانس، قال انفتاح قال …
– امشي … أصلاً انتي مطاعم طريق المطار بزياده عليكي.
يلقي بنقوده على الطاولة، تردّ شالها الأسود نصف الشفاف على طرف رأسها متعمّدةً أن تُسفر عن معظم شعرها ونحرها.
يهرع هو مسرعاً باتّجاه الباب، تحاول اللحاق به لتسير إلى جانبه، حذاؤها الأحمر العالي شبيه القبقاب التركي يعيق اندفاعها، لا تفلح بالوصول إليه، فتمضي خلفه، كل أملها أن تلحقه يوماً ما، وأن تعرف ما الّذي لازال ينقصها لكي تصبح امرأةً من ذلك النوع الّذي يجيد شرب فنجان من الشاي مع رجل.