هكذا تكلم أبو طشت 7: المحقق ديجيتال

ابو طشت

هكذا تكلم أبو طشت 7: المحقق ديجيتال

 

حسان محمد محمود – زي بوست

 

 

استأذنت معلمتي في دورة اللغة الألمانية كي أجيب على مكالمة من أبي طشت، وخرجت إلى الردهة وقد جاش في صدري الحنق جراء إلحاحه.
ـ يا رجل ! ما بك؟ أرسلت لك أنني في خضم درس لغة، ماذا تريد؟
ـ آسفين خيو، صرت تتشاوف علينا؟! لو لم يكن الموضوع مهماً ما كنا أزعجنا سيادتك.
أجبته بعدم معرفتي أية تفاصيل عما يستعلم عنه، واعداً إياه بإرسالها مساءً بعد عودتي إلى بيتي، وهكذا انتهت المكالمة بيننا، وقد أضاف لواجباتي الدراسية مهمة الاستعلام عن إطلاق ألمانيا مبادرة في الأمم المتحدة لمنع الإفلات من العقاب.
ـ هل يعقل أننا سمعنا في العصفورية الخبر وأنت الذي يعيش في ألمانيا لم تسمع عنه؟
ـ إنه الإنترنت يا صديقي، والتقنية الرقمية، كل شيء أضحى مرقماً، حتى البيضة هنا لها رقم.
وأرسلت له صورة بيضة عليها أرقام، فاتحاً على نفسي أبواب استنطاق لم أجبه عليه إلا والنعاس نال مما تبقى من قدراتي التي يُـفترض استخدامها لكتابة وظائف معلمة اللغة.
ـ وما نفع ترقيم البيضة؟
أدركت مذ سألني هذا السؤال أن مشكلة ما، قد تكون عقلية أو واقعية، تملي عليه طرحه.
ـ هل تقول لزوجتك مثلاً اسلقي لي البيضة ذات الرقم الفلاني؟
ماذا عساي أجيبه؟ المشكلة هي أنني لو اعترفت بأن ما أرسلته مجرد مزحة سوف ينقض عليّ موبخاً استهانتي به وبقدراته العقلية، فلم يكن أمامي إلا التوغل في غابة استفساراته التي أقحمت نفسي فيها.
ـ نعم، منذ فترة اكتشفت زوجتي أنني سلقت بيضةً كان يتوجب قليها، وأكلتها!
ـ أكلت البيضة؟
ـ لا، أكلت بهدلةً، ولو لم نكن هنا، كنت أكلت قتلةً.


وهكذا سار بي الحديث معه إلى شرح كيفية وضع الأرقام على البيض، وأن مؤخرات الدجاجات الألمانية ليست مسؤولة عن هذه المهمة التي تقوم بها آلات خاصة، وقصصت عليه قصصاً شتى عن فوائد الترقيم، استوقفته منها حكاية حل لغز جريمة قتل اكتشفت الشرطة من بيانات سوبر ماركت أن رقم بيضة اشتراها القتيل وردت في بيانات آلة سلق بيض القاتل.


ـ يا لطيف! قتله وسرق بيضاته؟ قسماً بالله هذه قصة لا تحصل حتى عندنا في العصفورية.
وبعد أن أبدى إعجابه بإصرار الألمان على معاقبة المجرم، وبالتالي مصداقية ما أعلنوه في الأمم المتحدة؛ عاد إلى مشكلتي مع زوجتي، واقترح حلاً كي لا يتكرر تقريعها لي، بأن نخصص البيض بالأرقام الفردية للقلي والزوجية للسلق، مبدياً أسفه على نفسه وحسرته على عدم تطبيق هذا الفرز الرقمي في مهنته الأخيرة التي زاولها مهرباً لجثث الأطفال السوريين من لبنان إلى سوريا.
ـ ولماذا تريد فرز الجثث يا صديقي؟
تلعثم أبو طشت، وفسر ذلك بأن هناك نوعان منها، الأول للمدفون الذي يجب نبشه، والثاني للميتين حديثاً، وبطبيعة الحال أجور النوع الأول أعلى، لأن الحفر سيتم مرتين، مرة لإخراج الجثة من تراب اللبنانيين الذين يرفضون دفن السوريين في مقابرهم، ومرة لدفنها بعد أن تعبر الحدود في أول مقبرة سورية.


ـ وماذا يرقمون عندكم في ألمانيا أيضاً؟
ـ كل شيء، كل شيء، لماذا تسأل؟
بعد برهة صمت، تغير صوته واكتسى بنبرة جدية تؤذن بقرار أو خطب مختلف عما سبق من حديثنا، ثم طلب مني التوسط لدى الألمان كي يساعدوه بمعاقبة أشخاص قاموا بخداعه، أنعشت آمال أبي طشت بمحاسبتهم أخبار سعي ألمانيا لمنع الإفلات من العقاب. قال أنهم استغلوا عمله في مجال تهريب الجثث، وأنه اكتشف الأمر صدفة عندما لاحظ قيام هؤلاء الأشخاص بإعادة حفر القبور وإخراج الأموات منها، ومن ثم دفنها مجدداً بعد أخذ المخدرات المخبئة في أكفانهم.


ـ هل لديك أرقامهم؟
ـ لا، ولكنني أستطيع التحايل عليهم فأطبع على ظهر كل منهم رقماً تعطيه لأصدقائك الألمان.
وافقته جزئياً على فكرته، ملتمساً تطوير خطته، وجعلها تشمل الحصول على أرقام هواتفهم، بيوتهم، سياراتهم …. فهذا أهم من أي رقم آخر لأنه يدل على هوياتهم.


انتفض غضباً دفاعاً عن أرقامه، محتجاً على غبائي الذي يمنعني من معرفة أهميتها، متوعداً بإثبات صحة ما عزم وأصر عليه، وأنه ذاهب فور انتهاء مكالمتي معه لشراء ما يطبع به الأرقام على ثياب خادعيه.
لم يكن أمامي إلا مسايرته، كي يهدأ ويخفف من سخطه؛ وأفلحت بعد طول شرح وإسهاب في إقناعه بإرفاق صور شخصية لهم بعد أن يقوم بترقيم ثيابهم، مشترطاً أن تكون صوراً واضحةً كي يتم التعرف عليهم من قبل السلطات هنا، فوعدني:
ـ لا عليك، لا تقلق، أنا معلم وأنت تعرف مهارتي.
ـ طبعاً، طبعاً، لا أحد يعرف مهارتك مثلي، تصبح على خير!
مر أسبوعان وأبو طشت مختف، لم أشأ خلالهما المبادرة للتحدث معه، خشية أن يؤدي رنين جواله إلى نتائج كارثية، فقد يكون لحظة طلبي له عابراً للحدود، أو في بيت أحد ممن يريد ترقيم ملابسهم. أردت معرفة ما يجري معه وإلى أي جزء من الخطة وصل التنفيذ، إلا أنني كبحت جماح فضولي، تاركاً أمر الاتصال له، فالساحة ساحته، والملعب ملعبه، والشعاب شعابه.


شهر مضى، والحال مع أبي طشت الغائب لم يتغير، غامرت وأرسلت له رسالة:
ـ وين صرنا؟
لم يجب، وإشارة “الواتس آب” أظهرت عدم استلامه سؤالي.
في اليوم التالي أتتني رسالة غامضة من رقم غريب، مؤلفة من أربع كلمات: انتظر طردي صديقك البخاخ.
قالت زوجتي أنها من أبي طشت، وقد وقعها باسم البخاخ في إشارة لقيامه ببخ الأرقام على ملابس أولئك الأشخاص، وفسرت ذلك بمأزق وقع فيه، وصعوبات في عمله بالتهريب أدت لطرده، وربما تكون العواقب أكبر من مجرد الطرد، خصوصاً إن اكتشفوا نيته بتصويرهم وإرسال المعلومات لنا.
بعد رسالته تلك ما عاد لدي من الأناة ذرة، حتى معلمة اللغة لاحظت شرودي وتواتر تفحصي هاتفي أثناء الدروس، فكففت عن الذهاب إلى المدرسة كي أتجنب الإحراج.


كعادتي في تفقد صندوق بريدي فتحته، و وجدت فيه حل أحجية رسالة أبي طشت، كانت بطاقة من مؤسسة البريد الألمانية تطلب مني مراجعة مكتبها لاستلام طرد من لبنان؛ فلم أطق انتظاراً، وهرعت لاستلامه، متيقناً أنه المرسل، وقد غمرني شعور بالسعادة لأنه بخير، ولانكشاف إسرافنا بهواجسنا والمبالغة بتفسيرات زوجتي لرسالته الأخيرة، وتبدد مخاوفنا التي كانت في غير محلها.


أمسكت الطرد مستغرباً ثقل وزنه، متسائلاً عما يحتويه، وما أن عثرت على مقعد خارج مكتب البريد حتى عجلت بفتحه. كان فيه كيس من الرز، وظرف فيه رسالة قصيرة كتبتها يد مرتعشة، تقول:
أرسلت لك بطاقة هاتفي، خبأتها بين حبات كيس الرز المرفق، فيها خزنت صورهم، وهي واضحة كما طلبت، وعليها الأرقام المطلوبة، لقد صورتهم من الخلف كي لا يكشفوا خطتنا. لا تؤاخذني على التأخير فقد كنت مشغولاً بترقيم حبات الرز المرفقة بهذه الرسالة، وأرجو إخبار زوجتك بأننا مثل الألمان نستطيع ترقيم كل شيء، ولا تنس الطلب منها أن تطبخ لك بأرقامها الفردية محشي وبالزوجية مقلوبة.

…***…
في جنازة أبي طشت حضر زملاؤه في التهريب، وبعد انتهاء مراسم الدفن مر أحدهم بمحاذاتي عائداً باتجاه القبر، وحين تجاوزني حدقت فيه، فإذا برقم صغير يتربع على سترته من الخلف، كان رقماً صغيراً، حجمه أكبر بقليل من حجم حبة رز.

البيضة المرقمة

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s