عبد الغني حمادة: انتحار مشرف
زي بوست:
في الفترة الأخيرة استهوته أخبار الانتحار والمنتحرين، فصار يتابعها عبر المحطات التلفزيونية بشوق واهتمام بالغين، حتى وصل به الأمر للتفكير بالانتحار، قرار لا يقبل التراجع، ولكنه يريد طريقة مختلفة، طريقة غير مطروقة من قبل، طريقة يتناقلها الناس بشغف…
فكر بحبل المشنقة، ثم عدل برأيه عن تلك الطريقة المتكررة كثيرا عبر التاريخ.
ثم إنها تعذب كثيرا حتى ينقطع النفس، لتتدلى الجثة وتترنح إلى أن تخرج الروح، لا لم تعجبه هذه الطريقة البدائية التي تحتاج لوقت طويل ، هو يريد انتحارا سريعا بلا عناء، كلمح بالبصر، عدا عن أنها تحتاج لشرط أساسي هو أن يكون وحده في البيت، وهذا لن يتحقق، ثم إنه لا مجال لأن يربط الحبل بمروحة السقف و يصعد الكرسي دون أن يساعده صديقه الوحيد، ذلك الجار الذي يساعده في كل شيء يطلبه منه، ولكن قد يجبن عندما تحين لحظة دفع الكرسي من تحت قدميه، بالانتحار يحتاج اما لقلب من فولاذ، أو لمجنون!.
– لا ، لا ، يجب أن أبحث عن طريقة تتكلم عنها الصحف والمحطات التلفزيونية.
هكذا كان يحدث قلبه المستسلم تماما لفكرة الانتحار، والتي انتشرت في هذا الزمن الرديء، وخاصة بين أبناء جلدته المهجرين في جميع أرجاء المعمورة لأسباب متعددة.
خطر بباله أن يصعد إلى سطح البناية ويرمي بنفسه جثة هامدة، ولكن ماذا لو لم يمت!!..
كأن يصاب بكسور في رجليه، أو رقبته وظهره، أو يصاب بالشلل مثلا.
– لا، لا أريد ذلك، فالموت أهون علي من الشلل.
يجب أن أفكر بطريقة أعمق من تلك، فهناك الكثير من الطرق، كتناول السم مثلا، أو الصعق الكهربائي.
لا، لا…. أنا أريد طريقة مختلفة، طريقة انتحار مشرفة، راقية، تتكلم عنها وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة بشغف وتشويق، ويتسابقون لمقابلات أسرتي، وتحليل الأسباب والدوافع التي أوصلتني إلى نفق مسدود في الحياة، ومن ثم إلى الانتحار.
كانت نفسه تتصارع مع عقله بذاك الحوار والمبررات.
مع بزوغ الشمس، وقف في الشارع العريض، كانت السيارات مسرعة بأصحابها.
قرر أن يختار سيارة حديثة، ويرمي بنفسه من فوق جسر المشاة الحديدي أمام عجلاتها.
إنها طريقة انتحار مشرفة، ستستفيد أسرته من التعويضات التي سيدفعها السائق، ويترفهون بثمن دمه.
برز له عقله متسائلا:
– و ما ذنب هذا المسكين لأن يسجن بسبب رعونتك، ويدفع تعويضا لهؤلاء الفاتحين أفواههم كالحيتان؟!!..
في اللحظة الأخيرة، أقلع عن هذه الفكرة، فالشارع مليء بالكاميرات التي تصور وتسجل كل ما يدور ويحدث على مدار الساعة، ويعرفون بأن موته هو انتحار، ولا ذنب لهذا السائق بإزهاق روحه، ثم إنه ليس من الإنسانية والأخلاقية بشيء أن يبلو إنسانا بريئا بموته، فهذه ليست من شيمه.
تلك إذا فكرة بائسة، لا ترقى لطرق الانتحار العالمية.
لم يخطر بباله، يوما، أن يفكر بإنهاء حياته بهذه الصورة.
ولكن ما يتعرض له من مضايقات وعذابات أوصلته إلى ذلك التفكير، وأقنعته بإنهاء حياته مع مبررات رضخ لها عقله، فأيقن بأن وجوده في البيت أصبح عبئا على أسرته.
ليس بيده أن يكبر ويصل لمرحلة العجز، ليصبح عالة عليهم، يحتاج لمن يطعمه بيده، أو يوصله إلى بيت الخلاء، وينظفه، ويحلق له ذقنه، ويلبسه ثيابه، ويساعده بصعود درج البناية.
شعور صعب حين يعجز الإنسان عن قضاء حاجياته الضرورية الخاصة .
شعور مقيت عندما لا يجد من يساعده لإفراغ مثانته على سبيل المثال.
والأصعب من ذلك هو حين كانوا يغلقون باب غرفتهم، ويتركونه وحيدا ساعات طويلة مع التلفاز فقط…
– يا إلهي، ماذا أفعل؟!!..
حتى زوجتي باتت تنفر مني، سمعتها أكثر من مرة وهي تدعو علي بالموت دون خجل، لكنني تجاهلت بربرتها.
الأمر المضحك أنهم كانوا يتصنعون المثالية بالتعامل معي أمام الضيوف، ويكيلون مديحي، ويعددون خدماتهم لي.
أولادي يتهامسون مع أمهم ويتغامزون علي.
إنهم يقرفون من وجودي بينهم، هم لم يعلنوا ذلك صراحة، لكنني قرأت ذلك في عيونهم وتصرفاتهم واشمئزازهم.
لذلك قررت أن أريحهم مني.
اخيرا جاءته فكرة عليه أن يستغلها بسرعة راجيا أن تساعده الظروف على تنفيذها دون معوقات أو عراقيل . استعان بصديقه، ليوصله إلى المسجد.
غافل المصلين وهم يؤدون صلاة العصر، اعتلى مئذنة الجامع القريب عبر درجها بجهود صديقه الذي حمله على ظهره وتركه بين السماء والأرض.
لأول مرة يرى المدينة الصغيرة بهذا الجمال.
– يا إلهي كم تبدو هذه المدينة جميلة من الأعلى!!..
شوارعها منتظمة هندسيا، الحدائق موزعة بتناسق جميل في أحيائها، القرميد الأحمر يزين أسطحة أبنيتها. فيعطيها رونقا بديعا يدهش الأنظار..
قباب المساجد ومآذنها المدببة كأقلام الرصاص ما أجملها.
انتظر قليلا حتى بدأ المصلون بالخروج من المسجد، لوح لهم بيديه، وهو يمد رجله إلى الأسفل، يريد أن يلفت انتباه الناس الواقفين:
– هذا مجنون يريد أن ينتحر..
يصرخ مقهورا:
– اتركوني بحالي ، لقد سئمت الحياة…
– مسكين، ربكم أعلم بحالته.
– اطلبوا النجدة، يجب أن ننقذه، هيا بسرعة هاتوا بطانيات واسفنج ، قبل أن يقتل نفسه..
زوجته تبكي، وقد تجمع حولها الأولاد، وهم يتوسلونه بألا يلقي بنفسه…
– انزل يا أبي ولك ما تريد..
– انزل لن نعصي لك أمرا بعد اليوم..
– كرمى للعشرة التي بيننا، غير رأيك يا زوجي العزيز …
– الآن أصبحت غاليا مهما عند الأولاد، عزيزا على قلبك يا زوجتي، يا إلهي كم تتغير القلوب وقت الشدائد!!..
ليتني فعلتها منذ زمن!!..
أسند رأسه إلى الوراء، أغمض عينيه:
– ولكن ماذا لو كانوا يكذبون ويعودون كما كانوا سابقا، وذهبت وعودهم هباء منثورا؟!!..
حينها لن يفيد الندم، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، يجب أن أتخذ قراري بسرعة، لا شيء يدعوني للتردد.
لأول مرة يتجرأ لهذه الدرجة، ربما لأنه في مكان لا يفصل بينه و بين العالم الآخر، العالم النقي سوى قفزة في الفراغ، فصرخ بأعلى صوته:
– أنا سأسامحكم مع أنكم كنتم سيئين جدا معي في الربع الأخير من عمري، سأتجاوز عن كل أخطائكم بحقي، ليس لأنكم تستحقون ذلك، لا، سأصفح عنكم لأني أمتلك قلبا أطيب من قلوبكم جميعا!!…
الآن سأذهب إلى الله وأخبره بكل ما كنتم تفعلونه بي، وسأتوسل إليه بألا يغفر لكم. أنتم مجانين، كلكم مجانين، كل البشر في هذا الزمن فقدوا عقولهم، فشاع القتل والظلم والخداع والخيانة بين البشر.
بعد أن أنهى كلامه انخرط في نحيب مؤلم.
بدأ بعض الرجال يتسلقون جدران الجامع في محاولة لثنيه عن قراره، أو محاولة إلهائه وإنقاذه من ذلك الانتحار المشرف، و حسب زعمه، هذا انتحار مشرف يرفع الرأس، كيف لا وهو انتحار في مكان طاهر لم يسبقه إليه أحد.
فهل يتساوى انتحار في خمارة مثلا مع انتحار في هذا المكان؟!!..
تذكر جده حين كان يعظ أحفاده:
– الموت يا أبنائي في الأماكن الطاهرة تشفع للميت .
فقاطعته الجدة آنذاك :
– يعني كفار قريش ستشفع لهم أرض مكة عند الله …
مع أن كلامها جرح الجد وأحرجه أمام الأحفاد، إلا أنه تابع موعظته وأصر على قناعته بمغفرة الله لعباده.
وأكد لهم أن الله يساعد الضعفاء دائما، ويمد لهم يده.
فسألته الحفيدة السمراء الفاحمة حينذاك:
– كم تبلغ قوة يد الله يا جدي؟!!..
– يد الله قوية كالفولاذ يا بنتي تنقذ عباده اليائسين البائسين.
هذه القناعة أورثها الجد لأحفاده الذكور فقط على ما يبدو.
نعم ، الانتحار هنا أشرف، على الأقل هنا سيضمن عفو الله و غفرانه.
من أين أتى ذلك الصحفي ذو الجدائل وراح يصور من عدة زوايا لا أحد يعرف!…
هذا الصحفي لا يفوته خبر في هذه المدينة، يتواجد في كل مكان، وفي اللحظة المناسبة.
وجود هذا الصحفي زرع ارتياحا كبيرا في نفسه، فهي بادرة جميلة، ومادة إعلامية ستجعله مشهورا ولو بعد موته!!..
دخل في نوبة هذيان وارتجاف، جعلته يفقد السيطرة على أعصابه الخائرة دفعة واحدة.
لا تستقيم الحياة مع الذل، الموت ولا المذلة، هكذا كان يسمع المتظاهرين يهتفون في بداية الثورة..
مع وصول سيارات النجدة ورجال الإنقاذ، قرر أن ينجز ما أراد بسرعة، تهيأ للقفز في الفراغ دفعة واحدة، مد رجليه، وبحركة كلمح بالبصر أمسكت به يد فولاذية غليظة، وسط تصفيق من المتجمعين تحت المئذنة!!…