هكذا تكلم أبو طشت 8: زمكنة دستورية
زي بوست: حسان محمد محمود
من يعرف أبا طشت وماضيه لن يستغرب اختياره عضواً في لجنة لتعديل الدستور العصفوري، فهو أكثر من رئيس عصفوري سابق، إنه أول رئيس للمجانين، الرئيس “التأسيسي” ولكي تدرك حجم إرثه عليك أن تضيف إلى خبرته العملية تلك قدراته الاستثنائية على سن القوانين الجديدة وزعزعة القديم منها لإلغائه أو تعديله، فهو صاحب المقولة الأشهر في عالم المجانين القانوني “السيادة سماؤنا السابعة وقوانينا جامعة”.
يقول شارحاً لي مشروعه:
ـ يجب أن نضيف صفة مكانية لمنصب الرئيس، وألا نكتفي بالصفات الزمنية، فلماذا هناك رئيس مؤقت، أو رئيس أبدي، ولا يوجد رئيس داخلي أو خارجي، شمالي أو غربي، تحتاني أو فوقاني؟!
هذه كانت قاعدته الفقهية، التي جعلته ينخرط بأعمال اللجنة ساعياً لتكريسها وتضمينها الدستور الجديد، مدفوعاً برغبته الكبيرة بإدخال تعديلات على الدستور النافذ يعتبرها جوهرية وحاسمة، وهو دستور لم يعاني منه شخص أكثر من أبي طشت.
الدستور الأول، الذي يزمع المجانين تغييره، فيه ثغرة كبيرة لطالما هددت وحدتهم ووضعتها في مهب كل انتخابات؛ فحسبما أظهرت تجربة أبي طشت الشخصية، وكما يعرف العارفون به، المعاصرون حيثيات وملابسات وظروف اختياره رئيساً…. رافقت نشوءه وانتخابات الرئاسة المنبثقة عنه مشكلة عظمى كادت تودي بالمجانين للانشقاق إلى فريقين متصارعين، متقاتلين.
يومها، تكريساً لمبدأ السيادة العصفورية، والحرص على نقاء الانتخابات من أية شائبة تشي بتدخل العاقلين، اشترط الدستور على أن يترشح للرئاسة أوسخ المجانين، معتمدين أهم معيار يميزهم عن خصومهم العاقلين وهو الوساخة.
تقدم أبو طشت لهيئة الترشح التي أعجبت جداً، بل أغرمت بالسواد المختبئ تحت أظافره، ولحيته المضمخة بالبصاق، ورائحة زيت الكاز التي رشها على شعره الكثيف الأشعث تعطراً للمناسبة، والقروح البادية على جلده جراء الحك الذي يثيره غزو الجرب لجسده.
عندما تعادلت حظوظ قبول ترشحه مع مجنون آخر أينعت عبقرية أبي طشت ونباهته عن الضربة القاضية لمنافسه: قام بمسح مؤخرته بورقة الترشح، ثم وضعها بمواجهة هيئة قبول الترشيحات مثبتاً لا عراقة وساخته فحسب، إنما قبل كل شيء ريادته، وقدرته على الابتكار الارتجالي، و من ثم، لأنه يحسن التعامل مع الظروف المفاجئة، استحقاقه أن يكون رئيساً استثنائياً للعصفورية.
مسح مؤخرته وضع العصفورية آنذاك في أتون نزاع منهجي بين وجهتي نظر، بقي لهيبه يطبع دستورها بطابعه فترات طويلة قادمة؛ فقد لاحت أخطار التشرذم في صفوف المجانين، الذين انقسموا إلى تيارين عريضين، لكل منهما فقهه، بحججه وأسانيده: الأول، ضيق الأفق ينظر لتصرف أبي طشت بسطحية، مغلباً الظاهر على الجوهر، معتبراً أن الرئاسة يجب ألا تمنح لمشبوه بالنظافة يمسح مؤخرته، أما التيار الثاني اجتهاديٌّ يرى سلوك أبي طشت بروحيته ودلالاته ومجازاته.
وتمخض جدل الفريقين الذي وصل حد تبادل الاتهامات بالعمالة للعاقلين عن قرارٍ كان بمثابة حل توفيقي، يُـسمح بموجبه لأبي طشت بخوض الانتخابات وتسميته رئيساً مؤقتاً إن نجح فيها، يتولى الرئاسة ريثما يعدل الدستور العصفوري بما يضع حداً للخلاف الدائر بخصوص مسح المؤخرة ويصون شرعية أي رئيس قادم إن فعل ذلك.
بعد خروج أبي طشت من العصفورية أضيف هم دستوري جديد إلى همومه، هو أن تسمح قوانين المجانين بأن يكون رئيسهم خارجياً، يقيم خارج العصفورية، ولأجل ذلك ما انفك أبو طشت يثبت لجمهوره جدارته بهذا المنصب، ومحاولاته تلك جعلت الكثيرين يتهمونه بالتزلف للعاقلين، ليس من زاوية ماضيه في مسح مؤخرته فقط، إنما بأمور أخرى تطعن بأصالة جنونه، و تهدد حياته السياسية المستقبلية. القضية الأكثر شهرة في هذا الخصوص كانت سلوكه تجاه قانون تحديد النسل، فبعد صدور هذا القانون من سلطات خصومه العاقلين كان أن حدد لزوجته أن تنجب كل سنة طفلاً، وهكذا بعد عشر سنوات أصبح لديه عشرة أطفال، وحين قامت السلطات العاقلة بإفهامه أن المقصود ليس التحديد الزمني للإنجاب بل العددي، لم يتورع عن إظهار رضوخه لتفسيرات العاقلين للقانون، بل والمبالغة في خنوعه له، فتزوج من أربع نساء، محدداً لكل منهن طفلاً في السنة، وهكذا التزم بالتحديد العددي الذي أرغمه عليه خصومه.
كما دافعوا عنه في قضية مسح مؤخرته في أول انتخابات خاضوها، دافع أنصار أبي طشت عن مذهبه في تحديد النسل، واعتبروا ذلك تطبيقاً عبقرياً للمبدأ الأبو طشتي الشهير “السيادة سماؤنا السابعة وقوانينا جامعة” معتبرين أنه فعل ما لم يفعله سواه على المستوى العصفوري، بأقلمة القوانين العاقلة وفق أطر الخبل، وطبعها بطابع خصوصيتهم الهذيانية، وهذا جدير وكفيل لا برد اتهامات وشبهة تزلفه للعاقلين فقط، إنما أيضاً بمكافأته والإعلاء من شأنه ومنحه المكانة التي يستحق، داخل العصفورية وخارجها.
ـ سوف أقوم بعملية تجميل، أريد أن أزرع شعراً، أراك بخير.
ـ لكنك لست أصلعاً، لماذا تريد زراعة الشعر؟
ـ لا تتدخل بشؤوننا الداخلية أيها العاقل، أنا أبلغك قراري ولا أطلب رأيك!
هكذا ودعني وذهب، مستدركاً ـ بعد أن رضخ لإلحاحي كي يفسر زراعته الشعر ـ أنه يريد الدخول إلى العصفورية متنكراً للاشتراك في أعمال لجنة تعديل الدستور، كي لا يؤثر إرثه وصورته الراسخان في أذهان المجانين على أدائه ومساعيه ومقترحاته.
غاب أبو طشت أكثر من خمس سنين، أمضاها بين رفاق دربه في العصفورية، وكانت الأنباء التي تصلني عن نضالاته متقطعة، فكل خارج منها كان يتصل بي أو يزورني حاملاً لي رسائله؛ رسائل موجزة عن مجريات الأمور ومآلاتها، حتى كانت رسالته الأخيرة السابقة لخروجه، التي أخبرني فيها أنه أصبح رئيساً خارجياً دائماً، وسوف يزورني قريباً ليحكي لي بعض التفاصيل التي أدت إلى هذا النجاح العظيم في دمج الصفتين الزمانية والمكانية مع لقب الرئيس.
قال وهو يحاول طرد الذباب المتلهف للهبوط على مؤخرته:
ـ ربما خانتني الفطنة عندما مسحت مؤخرتي، وقد تكون بقايا العقل الباقية في لا شعوري هي من دفعني لارتكاب تلك الغلطة، أو ربما لم ينضج المجانين وقتها إلى الدرجة التي تسمح لهم بأن يروا أبعد من ظاهر التصرفات، اليوم تم الأمر، وصار الدستور الجديد يسمح صراحة لماسحي مؤخراتهم بالترشح والانتخاب.
…***…
لم يحضر تشييع أبي طشت أي من أنصاره، كانوا مشغولين بإعادة كتابة دستور يناسب مرحلة ما بعد وفاة رئيسهم الخارجي الدائم، دستور يحذفون منه شرط أن يكون المرشح قرداً كثيف الشعر.