جهاد الدين رمضان: يا لكَ من كريه *

موضوع محذوف

جهاد الدين رمضان: يا لكَ من كريه *
زي بوست:
تضايق أخي “علاء” من ضيفي الثقيل “ميم” لتبلد شعوره و عدم فهمه إشارات السأم، قال له بعد منتصف الليل :
هيا بنا نتشمس خارج البيت.
رد ميم ببلادة و هو يتثاءب:
لكن الدنيا منتصف الليل و لم تطلع الشمس بعد.
الشمس التي أدعوك للسهرة تحت أشعتها مشرقة في الشارع خارج البيت، هيا تعال معي لتراها بأم عينك.
خرجتُ و ضيفي ابن الجيران ميم البليد، مع أخي علاء إلى الشارع الخالي من الحركة و الناس نيام، قال الضيف غير المرغوب به ميم:
أين الشمس يا علاء؟ إني لا أراها.
سحبه أخي علاء من يده إلى عمود الإنارة قرب باب بيتنا، و أشار له إلى المصباح الأصفر العتيق المنير بخجل و كسل، قال له:
تعال قف تحته، هذا ضوء الشمس، اسهر تحته بقدر ما شئت، أنا و أخي “جهاد” سنعود للنوم في البيت، غداً يوم السبت و عندنا مدرسة منذ الصبح.
آه! فهمت عليك، قل هذا من قبل، كنت قعدت معكم ساعتين ثلاثة و انصرفت. يا الله روحوا ناموا و عن خاطركم ليوم الغد.
هذه الليلة في منتصف سبعينات القرن الماضي مازلنا نتذكرها حتى اليوم، ليس كلانا (أنا و أخي) فقط بل كل أفراد العائلة الذين علموا بها ثاني يوم من فم أخي علاء مع بعض البهارات، و إطلاق الألقاب على ضيفي ميم المتبلد الحَسّ مثل (شيخ الملل وخروف السأم). و من يومها صار يفهم رفيقي ميم أن عليه الإنصراف متى قال له أخي علاء: هيا نسهر تحت ضوء الشمس!
لم أكن وحدي أعاني من صحبة هذا النوع الثقيل من الضيوف، فقد كبرت و لم أتخلص من رفيقي ميم، الذي ظل يلاحقني بظله الثقيل بعد زواجي، حتى زوجتي نالها سخط التعرف عليه، و نفد أولادي و ربما أحفادي من نقمة معرفته لحسن حظهم، لكننا و لسوء حظنا ابتلينا بمن هو أشد بلادة من السيد ميم، لدرجة يمكنني وصفهم بالوقحين عديمي الحَسّ، كنت اضطر لطلب إنهاء زيارتهم لي في البيت أو المكتب، و كنت أفعل هذا عملاً بالتقليد الحلبي الشعبي المشهور للتخلص من غير المرغوب بهم، إذ يقول البائع لزبونه ثقيل الدم:
(خيو المحل إلك بس اوهبني إياه)
و على سيرة بليدي الإحساس، عاصرت مثلاً بطلاً قومياً حارب الفرس و احتلّ دولة عربية، زعم نفسه بطل العرب، و أقوى من عنترة بني عبس، و حين حاصره حلف الأعداء من الجيران و الشمال و الغرب، ترك بلاده لمصيرها و اختبأ في جحر كالفأر، عثروا عليه و صوروه في ثوب الذل، لكنه لم يفهم الدرس حتى آخر نَفَس على حبل المشنقة في عيد الأضحى، و كان ضحية عناده و بلادته قبل كل شيء.
كما عاصرت و عرفت مثله بطل العرب و الأفارقة، ملك الملوك أبو النياشين و النخيل و الخيام، بطل الحسام و الكلام و الحسن، صاحب مقولة (من أنتم؟) حين ثار عليه الشعب، لكنه لم يفهم شعبه من يكون، و ظل متمسكاً بعرشه و عناده حتى وجدوه في الصحراء يلتمس الرحمة كالمجرم في قفص الاتهام، و لم تجدِه نفعاً توسلاته و لا وسائله في الهروب من نور الشمس.
يقولون إن اللبيب من الإشارة يفهم، و كم غادرتُ مجالساً بكرامتي قبل أن أحتاج إلى الإشارة أو التلميح، فما بالك عزيزي القارئ بمن لا يفهم من الكلام الصريح؟ لا تستغرب كلامي و انظر إلى خارطة الوطن العربي، كم من الحكام رفض تصديق أن الشعب يريد؟ استثني واحداً منهم فقط أدرك سريعاً أنه :
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلا بدّ أن يستجيب القدر!
و قال (الآن فهمتكم) و طار على جناح أول طيارة .
لكن معظمهم مازال ينكر إرادة شعبه، و لم يستوعب الدرس، ظنوا أن الربيع العربي مات و اندثر، فأزهر هذا العام ٢٠١٩ في خمسة بلدان عربية من الشرق إلى الغرب، و في المنتصف مصر البهية تصرخ اليوم من جديد في وجه العسكر :
(الشعب يريد إسقاط النظام)
أنا أستغرب مثلكم هذا الطويل الكريه، الذي – منذ تسع سنوات – يتلقى الإهانات والشتائم و التحقير و “التحشيك” و القذف بالصرامي و.. و… سمع شعبه يقول له بالعربي الفصيح:
(يا الله إرحل يا جزار)
فضحك ضحكته البلهاء، و قال : عفواً لقد اختارتني لحكمكم السماء، أود لو أني أترك الحكم لغيري من الحكماء، و أعيش كأي مواطن خنوع مع زوجتي الحسناء، نطبخ البرغل و نحتسي الحساء، و أمارس مهنتي كالرجال كما أمارس الجنس، لكن هكذا أراد لي أبي بعد أن صعدت روحه إلى السماء، فهل أصدق هذا الهراء : قال الشعب يريد قال؟!.
……………………………………………………………………………………………………
جهاد الدين رمضان
فيينا في ٢٠ تشرين الأول/أكتوبر ٢٠١٩
*العبارة هي عنوان فيلم فرنسي كوميدي للفنان بيير ريتشارد، استعرتها كعنوان للنص رغم تصنيفه كنوع من الكوميديا السوداء، و النص من مذكراتي و مشاهداتي في عالم اليوم.
الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s