عبد الغني حمادة: المضحكون

عبد الغني

عبد الغني حمادة: المضحكون

 

زي بوست:

 
لم يكن خليل متفائلا في حياته كما حاله اليوم!!..
ولأنه متفائل جدا، فقد قرر أن يحتفي على طريقته التفاؤلية الخاصة.
نهض من فراشه بوجه يفيض بالحيوية والنشاط، أسرع إلى المرآة، حملق فيها، ابتسم لها، غمزها بعينه، مط لسانه لنظيره، أغمض عينيه، ثم طبع قبلة رنت في أرجاء البيت، وأيقظت أسرته.
ولأنه متفائل أكثر من اللازم، فلن يدع أحدا يعبث بتفاؤله اللامحدود.
ارتدى قميص عرسه الذي ضاق عليه لدرجة أن أزراره لم تصل إلى عراها ، نادى على زوجته:
– تعالي يا مهجة قلبي ، اعقدي لي ربطة العنق يا حبيبتي…
تلفتت الزوجة المندهشة جدا، ظنته يهذي في نومه، ماذا حصل لخليل اليوم؟!!..
منظر ربطة العنق الرفيعة، أضفت عليه شكلا (كاريكاتوريا)، مع عدم تناسبها مع القميص البرتقالي الضيق، والطقم المتهدل الفضفاض الذي اشتراه من البالة العام الماضي…
صقل شعره بالكثير من (الجيل)، ولم يبخل على وجهه ورقبته برشة كولونيا رخيصة.
ومع اللمسات الأخيرة لهندامه، متجاهلا نظرات زوجته المرتابة منه.
وقبل أن يخرج من البيت، وهو يتحسس جيوبه، قال بتفاؤل حذر:
– لا تطبخي اليوم يا امرأة…
شحب وجهها، اتسع فمها، انفجرت شفتاها، ثم ابتسمت بانكسار:
– وماذا سنأكل، أم أنك ستدعوننا إلى المطعم يا هارون الرشيد؟.
وبكل ثقة وتفاؤل:
– سأجلب طعاما جاهزا من السوق…
صمت لبرهة، ثم أردف:
– سأقبض اليوم إكرامية..
حكت زوجته أنفها:
– قل رشوة، لا تخجل، فغيرك يتبجح بها بالفم الملآن…
– نعم، اعتبريها رشوة، المهم لا تتكلفي بالطبخ اليوم…
ضمت ذراعيها إلى صدرها، ورسمت ابتسامة صغيرة على وجهها، ثم تحولت إلى ضحكة قصيرة، خافتة، ما لبثت أن ارتفعت، وجلجلت قهقهتها في زوايا البيت، مما جعل الأولاد يتراكضون وهم يمسحون أثر النعاس عن عيونهم، وبدون مقدمات شاركوا أمهم، وانخرطوا بلا رحمة في حفلة الضحك المجانية الصباحية.
تعود خليل على تضامن الأولاد مع أمهم دائما، يحزنون معها حين تحزن، وحين تبكي يبكون، وهاهم الآن تهتز أبدانهم، تنفرج أشداقهم، وتكاد تتشلخ جراء قهقهات ترتج لها أركان البيت.
مع أنهم لا يعرفون سبب الضحك فإنهم مستغرقون فيه حتى الثمالة، فكيف لو عرفوا!!..
جميل أن يستيقظ الإنسان وهو يبتسم، والأجمل أن يرسم ابتسامة على وجوه الآخرين، فالوجه المبتسم يكون أجمل، والضحك يجلب الرزق والسعادة، كما كانت تقول جدته.
بلحظة، تذكر أنه رب البيت، وعليه أن يضبط الإيقاع، ويسيطر على الوضع:
– اسكتوا يا شياطين، يا أبالسة.
وكأنه ألقى عليهم طرفة مضحكة، مما زاد في هيجانهم. فراحوا يقهقهون مع أمهم كالضباع.
هددهم بحزم وصرامة:
– إن لم تسكتوا سأحرمكم من ( الخرجية )…
صرخوا باستغراب، وبصوت واحد:
– الخرجية!!…
الأولاد كان في رأسهم عقل قبل قليل، فأصبحوا كمن يدغدغهم أحد من خواصرهم، فتكوموا حول أمهم كالعناكب، وعيونهم تقذف الدموع كحبات المطر.
إنهم يضحكون من أعماقهم، من قيعان قلوبهم، وهذا أمر جميل، يبعث السعادة في النفس، ولأن خليل متفائل اليوم، فقد انخرط معهم في الضحك حتى تلاشوا جميعا، وانطرحوا كالجثث في (صالون) البيت.
بعد لحظات، استعاد خليل وعيه، زحف نحو الباب بهدوء، وانسل إلى عمله، قبل أن يستعيدوا وعيهم، ويعود إليهم رشدهم.
سمان الحي المشغول بتدوير الديون، نظر بطرف عينه، وهو يصغي لجاره خليل:
– أنا على عجلة من أمري، يا أبا عثمان، أعطني علبة تبغ.
وكمن يرى مهرج سيرك:
– قلت لي أنك مستعجل!!..
قالها وهو يفرك سبابته بإبهامه.
كم كان خليل يكره هذه الحركة التي يفعلها السمان كلما لمحه قادما تجاهه.
انفرج فمه العريض عن ابتسامة صفراء مليئة بالخبث، التقط خليل معناها بلا عناء أو تفكير، فتشاغل بجيوبه الخاوية، مما جعل السمان الماكر يقول له ساخرا:
– لا تعذب نفسك يا خليل أفندي.
احتفظ خليل بتفاؤله:
– اليوم ، بعد الانصراف ، سأعطيك دفعة محرزة من الحساب يا جار، سأقبض مكافأة.
بش وجهه، ناوله علبة التبغ وهو يبتسم بمكر، مالبث أن حولها إلى ضحكة قصيرة، فأطول، ثم أطول، ثم إلى قهقهة، وهو يضرب كفا بكف .
فرصة مجانية أتت لخليل، فلم لا يتضامن مع جاره الجشع، وهكذا أرخى العنان لشدقيه، وأطلق ضحكة مدوية حتى الثمالة.
على شارة المرور، قال للشرطي :
– انظر كيف تجاوز هذا السائق الشارة الحمراء دون رادع؟!!..
ابتسم رجل المرور وهو يخشخش بجيوبه، ثم زوره وضحك، تجمع الناس، حملقوا في وجهه، وبإشارة ملغومة من الشرطي، بدؤوا حفلة ضحك دونما سبب.
مع أنه لم يقل شيئا مضحكا، وإنما أشار لمخالفة ارتكبها أحد السائقين فقط، فاهتزت كروشهم من الضحك.
ولأنه لن يفرط بحفنة التفاؤل هذا اليوم، فقد شاركهم الضحك، ثم تركهم في قمة سعادتهم، والأمل يحدوه برشوة يسيل لها اللعاب، ويرضي بها السمان وأم العيال.
في العمل، وبعد أن استقر على كرسيه، نادى الآذن بلغة فصحى:
– أين أنت يا شعبان؟!!..
مط المستخدم رأسه، بحلق في وجهه، ودون أن ينتظر حرفا منه:
– هات كوبا من القهوة( أيضا بالفصحى دون شائبة ).
تشاغله بالسجلات المبعثرة أمامه على الطاولة، لم يمنع الآذن من الصراخ هازئا:
– اسمعوا هذه الطرفةالصباحية، الأستاذ خليل سيشرب القهوة، قالها بالفصحى مقلدا الأستاذ خليل، ثم دخل في ضحكة هستيرية ملأت المديرية.
خليل لم يضحك الآذن بطرفة أو بحركة، وكل مافي الأمر أنه طلب فنجان قهوة، ولم لا، فأغلب الموظفين يطلبون منه ذلك عدة مرات، ومع ذلك فإنه لا يضحك، بل يحني رأسه مع ( تكرم ، حاضر ، أمرك يا أستاذ ، من عيوني يا آنسة ).
ضحكة الآذن، جعلت الآنسة ريم تبتسم، ما لبثت أن ضحكت فارتج نهداها بحركة مستفزة للأعصاب، فضحك رئيس القسم ذو السن الذهبي، عندئذ لم يتمالك خليل نفسه، فشاركهم ذلك الضحك الرائع الذي راح يهدر كسيمفونيات في غرف المديرية.
– خليل يشرب القهوة… خلي… ل…ي ..شش..ررر…ب …قهههوة قهقهقه ….
كانت القهقهات تصدح و تلف كالزوابع في أرجاء المكان.
ولأنه متفائل جدا في هذا اليوم، فقد سامح كل من ضحك، وغبط نفسه كثيرا بأن جعلهم يبتسمون ويضحكون وينسون بعض همومهم.
بعيد منتصف الدوام، تسرب الملل إليه، فلا عمل لديه سوى تسجيل الأوراق الصادرة والواردة، ياله من عمل جاف لا درهم فيه ولا دولار، أين منه الأقسام الأخرى المليئة بالإكراميات والهدايا والبقاشيش.
لكن كونه متفائلا فوق العادة هذا اليوم، فقد رفض الرشوة التي وعده بها أحد عملاء المديرية، وقرر أن يبقي سجله نظيفا ناصعا، نقيا كالثلج، وقرر أن يبتعد ما استطاع عن مستنقع القاذورات الذي خاض فيه غيره حتى العنق.
ولأنه وعد أسرته بعشاء جاهز من المطعم، فقد قرر أن يمرض، أو بالأحرى أن يتمارض، وهذا ما سيجعل زملاءه في المديرية، يقومون بزيارته حاملين معهم الشوكولا والحلويات والورود ومختلف أنواع الطعام.
وبسرعة، دخل على على المدير الذي أمسك ورقة المرض، وما إن قرأها، حتى ابتسم، ثم ضحك وهو يميل رأسه على مسند الكرسي الدوار.
تمالك نفسه لحظة، ثم ساله باستغراب:
– أنت، أنت مريض؟!!… والله غريب، وما هو مرضك يا أستاذ خليل؟!!..
لم ينتظر إجابته، فانفجر ثانية بضحكة جعلت السكرتيرة تدخل ملهوفة.
يمسك المدير الورقة، ويشير لها بأن تقرأ، وهو لا يزال مستغرقا في نوبة الضحك.
السكرتيرة الجميلة جدا لدرجة الإغواء ، كانت تمسك خصرها وتهتز، فيهتز قلب خليل مع انحناءاتها، تميل نحو الأمام فيندلق صدرها، حتى يتبين أسفل ظهرها، فتتزلزل عيون خليل.
ثم تعدل قامتها نحو الوراء، لتظهر سرتها المعقودة كقرص البندورة كما تقول جدته.
ضيف المدير، تشردق بقهوته حتى كاد أن يختنق بها من شدة الضحك.
أجبر خليل على الضحك، فمن غير المعقول أن يضحك المدير ويظل، هو عابسا، نعم يجب أن يضحك على أشخاص لا سبب وجيه لضحكهم.
في غمرة ما هم فيه من ضحك وقهقهات، قال لنفسه:
– اضحك يا خليل، فالضحك يطيل العمر، اضحك فلن تأخذ معك إلى القبر سوى القطن والكفن.
تقاطر الموظفون إلى غرفة المدير، حيث مصدر الجلبة، وحين لمحوا مديرهم غارقا في بحر من الضحك، ساهموا بكل ما أوتوا من قوة وضحك وقهقهات، لا تشبه الضحك الحقيقي قيد أنملة ، شعور غريب بدا على وجوههم وهم يرمقون خليل بنظرات لا تفسير لها.
قال لهم:
– هل سمعتم الأخبار؟!!..
ازدادت ضحكاتهم.
– فلسطين راحت..
ضحكوا أكثر..
– العراق تقسمت، والدور علينا..
زاد هيجانهم …
– ماتت النخوة ( فضحكوا ) ، ماتت الشهامة ( ضحكوا، وتمايلوا ) .
– أنتم أغبياء، أنذال، خونة، لصوص، مرتشون .
لم يهتموا لما يقوله خليل .
– أنتم إمعات، أنتم لا شيء ، أنتم مضحكون جدا.
استمروا في ضحكاتهم الهستيرية.
صرخ خليل:
– توقفوا ، أكاد أختنق .
ازدادت قهقهاتهم.
عاد إلى الصراخ:
– أرجوكم، أكاد أموت!…
فازداد سعير ضحكاتهم…
بح صوته من الصراخ:
– أخرجوني من هنا… أنا أموت..
لكنهم هاجوا، وماجوا أكثر،
تمتمت شفتاه:
– إني أموت يا أولاد الكلب.
لم يأبهوا لسبابه وشتائمه…
تلجلج لسانه وثقلت حركته:
– أنا مت أيها القطيع… أنا ميت يا أوباش..
ولكنهم تابعوا الضحك وكأن شيئا لم يكن..
فقد استمروا بسعير هيجانهم أكثر ، وأكثر، لكن هذه المرة لم يكونوا يضحكون على خليل، بل على المدير الذي كان ينهق كالحمار ….

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s