بغل أبو أمين *
جهاد الدين رمضان – زي بوست
لا نعرف متى يجهز العم “أبو أمين” عربته و بغله و ينطلق للشغل، فرغم استيقاظنا في الصباح الباكر للذهاب إلى المدرسة – فوج الصبح – لا نجد العربة و لا البغل أمام بيت الجار، و حين عودتنا من المدرسة ظهراً يعود جارنا أبو أمين من شغله في النقل، يسبقنا حيناً و نسبقه غالب الأحيان، يحلّ البغل عن العربة، و يحرره من النير و السيور و الرسن، و يركن العربة الخشبية بمحاذاة الرصيف، يدخل بيته و يخرج بسطل معدني مليئ بالماء العذب البارد و يسقي البغل، ثم يعود بالسطل الفارغ إلى البيت، و يخرج بمخلاة قماشية مليئة بالتبن و الشعير و كسرات الخبز اليابس، يعلقها برقبة الحيوان المرهق الجائع، و يذهب هو للغداء و الاستراحة بعد أن يربط البغل بمؤخرة العربة بالحبل.
يحظى بغل أبو أمين بالأولوية في الشرب و الأكل و الاستراحة قبل صاحبه، فهو عدته و رأسماله و مصدر رزقه الوحيد، يحرص على سلامته أكثر من حرصه على العربة الجامدة كثيرة العطب، بل يحرص على البغل أكثر من حرصه على بعض الأهل، و في معظم الأيام لا يعود إلى الشغل في نقل السلع و مواد البناء بعد الظهر، فيخرج من بيته لصلاة العصر، و عندما يعود من جامع “عقيل” في الحارة الفوقانية المقابل لدكان الشيخ “حج نجيب” يتفقد البغل، يسقيه الماء مرةً ثانية، و يقشط الغبار و التراب و عوالق الطبيعة و المدينة من الأوساخ عن شعر جسمه “بالقشق” المعدني الذي يشبه “كيس الحمام” الأسود، و يحممه بالماء و الصابون في أيام الصيف، يتفقد أمكنة العقر و الرضوض و الجروح في كل جسم البغل، و يتفقد حوافره و حدواتها أيها يسبب له التعب، يصلح الخلل و يداوي الإصابات بكل عناية و صبر، كأنه يداوي ابنه الذي لم يرزق به بعد، و ينظف الشارع من روثه و بقايا الأوساخ الناتجة عن عملية تنظيف البغل، ثم يأخذه إلى المغارة مع غروب الشمس، و يعود إلى بيته مرتاح البال مسرور الخاطر، يتوضأ من جديد و يصلي صلاة المغرب و العشاء، و يحمد الله على الصحة و السلامة و توفر الرزق.
بغل أبو أمين لم يكن محط اهتمام صاحبه فقط، فكل أطفال الحارات غرب شارع “القادسية” الرئيسي في حي السكري الشعبي جنوب حلب يعرفونه و يهتمون به، كانت العربات الخشبية القديمة المعدة للنقل و الحمولة بواسطة الحيوانات، تصارع الوسائل الآلية الحديثة للبقاء قيد الاستعمال في عقد السبعينات من القرن المنصرم، كنا نفرح لبقاء بغل أبي أمين على قيد الحياة إلى جانب موتور “الكوزي” و سواه من آليات منافسة للبغل، و مع إعجابنا بموتور الحمولة الكوزي القلاب ذي الثلاث عجلات – لأنه يرجع للخلف آلياً و يرفع صندوق الحمولة من الخلف للأعلى بكبسة زر – كنا أكثر إعجاباً بالبغل الحي، و أكثر حرصاً على سلامته و تغذيته و الفرجة عليه، نجلب بقايا الخبز و الطعام و فضلاته من بيوتنا و نطعمها للبغل، نلحق العم أبي أمين إلى رأس الحارة لنعرف في أي مغارة سيدع البغل، فإذا توجّه إلى اليمين باتجاه جامع عقيل، نعرف أين سيكون حفل مشاهدة البغال، و إذا توجّه إلى اليسار صوب حارة “بيت العنجريني و درويش” بعد بيت “العاشور” نفقد الأمل في الفرجة، فتلك المغارة على صف محل الفوال “أبو بشير” في آخر الطريق الزفت غير مكشوفة و تقع تحت الأرض، يُنزلُ إليها من الرصيف بدرج حجري ضيق و مرتفع يُفضي إلى بابها السد، بينما الأولى الواقعة خلف بيت جارنا أبي أمين، في حارة بيت “القوجة” على صفه في الوسط ، مستوية مع الأرض أو أدنى بقليل، و بابها من الشبك و قضبان الحديد، مما يسمح لنا و للمارة في الحارة برؤية ما بداخلها بيسر و وضوح.
ننتظر رجوع صاحب البغل إلى بيته، و تبدأ بعدها الدعوات من رفاق الحارة لمشاهدة عالم الحيوان في “مغارة بغل أبو أمين و الأربعين مشاهد”، نذهب جماعة من خمسة حتى عشرة أولاد لحضور العرض الحي، نجد غيرنا من أولاد حارة المغارة قد سبقنا إلى بابها متشبثاً بالقضبان الحديدية بيديه، و قد دسّ رأسه في الفرجة بين الشبك لتحلو الفرجة و تتضح، نتزاحم على بقية الأماكن المتوفرة، و نُغري الصغار بقطع الحلوى ليتركوا لنا أماكنهم الاستراتيجية، و أحياناً نشتبك بالكلام أو الأطراف مع بعضنا البعض، لكن في النهاية نتصالح و نخرج من الحفل برضا و سلام.
لا أعرف ما الذي كان يستهوينا في الفرجة على بغل أبي أمين إلى جانب البغلة الثانية الموجودة في الزريبة/المغارة، كان يُضاف إليهما في بعض الأحيان بغل أسود أو ربما كديش، لكن البغلة الشقراء تكون دوماً متواجدة إلى جانب بغل أبي أمين الأصهب المائل للحمرة، يبدوان كعشيقين في زريبة الحب /المغارة، يقرِّب أحدهما فمه من رأس الآخر و يهمهم بلطف، ثم يتطور الغزل إلى عملية تزاوج كاملة لم نكن نعيها بالضبط، كنت – ربما وحدي – أحسبها معركة بين الذكر و الأنثى، و أفرح لانتصار البغل على تلك البغلة الشقراء التي تحاول منعه من ركوبها بالرفس، و أصفق مع الحاضرين عندما يتغلب عليها بطلنا بغل أبي أمين، و يتمكن من ركوبها من الخلف بعدما أمسك بها بقائمتيه الأماميتين بقوة و عناد، بعض الرفاق الأطفال الكبار يصفقون للبغل لأنه روى شهوة غريزية متفتحة باكراً في نفوسهم، أو ربما عن معرفة تامة و إدراك واعٍ لغريزة الجنس.
بعد أن تنتهي المعركة المزيفة بين البغال، ينفضّ الرفاق عن باب مغارة السحر، ننطلق إلى حارتنا أو إلى حارة أبعد، لنواصل لهونا و معاركنا الوهمية التي فُطرَ عليها الإنسان منذ الأزل، لم نتعلم الحب من أمنا و أبينا (آدم و حواء)، بل أصابتنا عدوى القتل من أخوينا (قابيل و هابيل) و مازلنا نقتل بعضنا، لم أدرك أن القتل وصمة عارٍ في جبين الإنسانية إلا بعد أن كبرت، و رأيت كتب التاريخ تطفح بالدم، و أدركت أن الحيوان لا يقتل بني جنسه، و لا يقتل إلا للغذاء لا عن شهوة للقتل.
أستغرب جداً كيف تحولت روح الأخوة بيننا إلى هواية للقتل، أنظر بألم و حزن إلى أنقاض حارتي و ملاعب طفولتي، و أسمع صرخات جيراني و الأهل عندما تهوي الأسقف فوق رؤوسهم بفعل براميل و صواريخ الحقد، و أتساءل يا تُرى لو وسعتهم “مغارة بغل أبو أمين” هل ينفدون من الموت؟!.
……………………………………………………………………………………………………
جهاد الدين رمضان
فيينا، في ٢٤ تشرين الأول / أكتوبر ٢٠١٩
*النص من مذكراتي و أحداث اليوم ، والصورة المرفقة منقولة من النت المشاع تشبه عربة و بغل أبو أمين