جهاد الدين رمضان: الشيطان في جبّة شيخ *
زي بوست:
أثناء خدمتي العلم في عام ١٩٩١، دعانا صديقي “نون” أنا و خمسة من الزملاء بالمحكمة العسكرية بحلب، لزيارته يوم الجمعة في قريته الصغيرة للغداء، لبينا دعوته الكريمة عن طيب خاطر، زرناه كما تواعدنا و استقبلنا زميلنا المُضيف بوجه بشوش و فطور شهي، ثم دعانا قبل الغداء لصلاة الجمعة في جامع القرية الوحيد، وافقتُ الجماعة و صليت مثلهم، مرت الصلاة بسلام حتى سمعت الشيخ الخطيب يقول (أن حمار الرسول – صلى الله عليه وسلم – رمى بنفسه في البئر حزناً على موت صاحبه محمد عليه الصلاة والسلام)، استنكرت ذلك و دُهشت لأني ما قرأت قط ولا سمعت عن هذه الرواية من قبل، بالطبع أكبرتُ عاطفة الحمار أيما إكبار، لكن للأسف تبين لي أن هذه الحادثة لم ترد إطلاقاً في التاريخ، فقد سألت صديقي “أبو سلام” بعد عقدين من الزمان عن صحة هذه الحادثة، و هل وردت في مصادر السيرة النبوية الشريفة (فهو متخصص في روايتها كما أخبرني سابقاً) أو في مصدر آخر؟ ضحك صديقي أبي سلام، و قال :
– يا سلام، ما هذا الكلام؟ هل يعقل الحمار من هو صاحبه؟ و هل يمتلك مشاعر و أحاسيس كالبشر حتى ينتحر حزناً على موت صاحبه؟ ربما زُلّتْ قوائمه فسقط في البئر، رغم عدم ورود هذا الخبر في أي مصدر، هذا هو الاحتمال الوحيد القابل للتصديق يا صديقي.
مرت تسع سنوات على تلك الزيارة، مرت بسلام مع لذيذ الطعام و جميل الذكريات، و توالت الأيام كالغمام، حتى كان ذلك اليوم : كنتُ نائماً فيه بسلام بعد الغداء، في بيتي الصغير بحي “الشيخ مقصود” شمال حلب، استيقظت على صوت جارتي “أم محمد” تطلب من زوجتي أن توقظني لنتفرج على التلفاز، نهضت ملتاعاً ملهوفاً لمعرفة ما الخبر الذي استدعى كل هذا الاهتمام؟.. شاهدت شيخاً معروفاً على القناة الوطنية و المذياع، كان يبكي بحزن و هو ينقل للمشاهدين خبر وفاة قائد الوطن، بطل المكرمات و الكثير من الصفات، حتى ظننت نفسي أسمع ذاك الخطيب في جامع قرية صديقي نون، يبكي حزناً على وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) و هو يعدد معجزاته حتى يوم وفاته و انتحار الحمار .
هذا الشيخ لم يكن يوم إذاعة خبر وفاة الأب القائد المغوار يرتدي الجبة و العمامة كباقي المشايخ، كان – غالباً – يرتدي اللباس الرسمي و ربطة العنق كرجال الأعمال. عرفت شيخاً مثله يرتدي آخر طرز من فاخر الثياب، لكنه في الحقيقة رجل أعمال بحلّة شيخ “دعوة” و إرشاد، يرتدي الجبة البيضاء أو البذلة الرسمية السوداء لا فرق، و يبكي كثيراً على شاشات التلفاز، يبكي بسهولة كطفل صغير، شاهدته مراراً و لم أُعِرْهُ بالاً، ثم شاهدته مرةً بعد خمس سنوات من تلك الحادثة (إعلان وفاء رئيسنا السوري المُفدى)، شاهدته في حال مختلفة على إحدى الفضائيات العربية، حين دخلت أحد المحلات في الشام لأتسوق مع زوجتي لوازم الطعام، مددت يدي بالأكياس لصاحب البقالة ليزنها و أدفع ثمنها و ننصرف، لكن البائع لم يأخذها مني لذهوله من كلام الشيخ الداعية البكّاء، كان في عالمٍ آخر كأنه لا يجلس وراء الميزان في الدكان، بل في جنات السماء، استغربت بكاء الرجل الغزير، و رأيت المشهد الغريب كأنهم يعرضون صورة الرجل كخبر مثير، قلت لزوجتي : ما بال هذا الطفل الكبير يبكي بحرقة كل هذا البكاء؟ هل ضيّعته أمّه أم نسته في زحمة السوق؟
قالت لي زوجتي : اسكت، هذا شيخ أخذه الحال!..
تعرفون قصته كيف أخذه “الحال” في موسم الحج، تذكرون كيف ظهر بلباس الإحرام على جبل “عرفات” يدعو ربه لتخصيص متابعيه على “الفيس بوك” بالنعم و الخيرات و الرعاية و التوفيق و دخول الجنة دون بقية خلق الله؟ تعرفون كم مليون دولار بلغت ثروته من برامج البكاء و دروس الدعوة في عالم الإعلام؟ تعرفون كم يبلغ أجره في الدقيقة الواحدة للإعلانات التجارية؟
لا تخدعنّكم دموعه التجارية التي لا تنمّ عن خشوعه، فهي وسيلته الناجحة لكسب المال بالحلال، حرام عليكم لا تعذلوه يا أولاد الحلال!.
عدنا بعد عام من الإقامة في دمشق للسكنى في حلب آخر عام ٢٠٠٦ ، و عادت مجالس الأنس مع الأهل و الخلان، أذكر في يوم ما عودتنا (أنا و زوجتي وولدانا الاثنان) بعد سهرة متأخرة من بيت الأهل بحي “حلب الجديدة” إلى بيتنا في حي “الجلاء” بعد منتصف الليل، ركبنا أول سيارة تكسي وجدناها في حي حلب الجديدة المتطرف، و رضينا بإرغام سائقها المتطرف تسميعنا خطبة عصماء لأحد مشايخ حلب الشهباء، لكن السائق على ما يبدو لم يرضَ بنا، ربما لم يرضِهِ هندام زوجتي بلا “مانطو”، و بدون غطاء على الرأس، فرفع صوت “المسجلة” رأساً حال جلوسنا في المقعد الخلفي، حاول أطفالنا النوم في الطريق الطويل كعادتهما، لكن صوت الشيخ المرتفع منعهما من ذلك، و راحت جهودهما هباء، لم أصغِ للخطبة رغم تهديد الشيخ و ترغيبه، تارة بنبرة غضب و تارة بمسحة بكاء، أرخيت أعصابي و استمعت بلا مبالاة، حتى وصل الشيخ في خطبته لأن قال: (أنه سمع من زملاء له من مشايخ العراق المشهود لهم بالصدق، بأنهم شاهدوا بأم أعينهم جنوداً بأردية بيضاء، على خيولهم البيضاء، و بأسلحتهم البيضاء يحاربون مع جيش “صدام” في حرب العراق عام ٢٠٠٣).
ها هنا مددت رأسي للأمام قرب إذن السائق اليمين، و قلت له باهتمام :
– عفواً أخي سأسألك سؤال.
خفّضَ السائق صوت الشيخ العال، و قال :
– تفضل اسأل يا استاذ.
تنحنحت و أجبت :
– مَن هذا الشيخ يا ابن الحلال؟
– و لو يا استاذ، ما عرفته للشيخ “فلان” المفتي المعلوم؟
- لا والله ما عرفته من صوته مع أني سمعت له الكثير من الخُطَب، وحضرت له شخصياً بعض المناسبات.
فرح السائق بجوابي و أردف بسرور واضح :
– هل أعجبك الشريط يا أستاذ؟
ثم أطفأ المسجلة و أخرج شريط “الكاسيت” و قال لي :
– خذه هدية مني لوجه الله، عندي الكثير من الأشرطة للشيخ فلان .
قلت له معتذراً بلطف :
– شكراً يا أخي، أنزلنا هناك قبل الجامع على الزاوية، بيتي هناك خلف ذاك الجامع الكبير، و احتفظ بالشريط لغيري، فقد اكتفيت من مواعظ المشايخ، الله يعطيك العافية و يتقبل منك.
ما أثار دهشتي في ذلك اليوم ليس ما سمعته من كلام الشيخ فلان، بل أن أسمع مثل هذه الدعاية من رجل يتولّى “منصب ديني رسمي” مهماً في ذلك الوقت!
سمعت من قريبي “زكريا” قبل ثلاثة أعوام مثل هذا الكلام – الدعاية – نقلاً عن شيخ طريقته، قال لي أن شيخه أخبرهم (تلاميذ الشيخ و من ضمنهم زكريا) بأن الملائكة تقاتل الكفار إلى جانب جيش العراق المقدام، و شوهدت أرواح الموتى تخرج من القبور و تحارب مع النور، نور الملائكة الذين يحاربون جيوش الغزاة!.
سمعت مثل هذا الكلام بكثرة في عام ٢٠٠٣ مع موجة الترويج للجهاد في جبهات العراق على أعلى المستويات، و بدعم رسمي خفي من السلطات.. كم من الشباب صدق هذه الدعوات و ذهب للجهاد، ثم اكتشف هناك الخيبات و الخيانات، كم مات منهم وروحه لم تجد قبراً تسكن فيه بسلام، وكم تاه منهم في طرق و ساحات القتال و رمال الصحراء و لم يُعرف مصيره بعد؟
بعد تولي الشيخ فلان لمنصب رسمي أكبر في الجمهورية العربية السورية، لم أستغرب تصريحاته و فتاويه السابقة المثيرة للجدل، سمعته مرةً يتزلف لأحد أثرياء حلب المرشح لانتخابات مجلس الشعب، داعياً حضور خيمته (و كنت من المدعوين من قبل أحد الأصدقاء) لانتخابه، لأنه أقدر من غيره على توصيل مطالب الشعب عبر مجلس الشعب للوزراء و الحكام، و قال إنه يوصي الجميع بانتخابه، بل ( إن انتخابه فرض عين على كل مسلم يبغي السلام ) .
بعدها بسنوات خرج علينا عقب ربيع عام ٢٠١١ معقباً على الأحداث، قالها علناً في شاشات التلفزيون و صحون الجوامع و المقابلات: (سنغزو أوروبا بعمليات التفجير الإرهابية) و حرّف آية في القرآن، و قال “شالوم” في مؤتمر للسلام .
كما صرّح بأن سيادة الرئيس الحكيم زاهد في منصب الرئاسة، لا يستطيب الجلوس على كرسي الحكم، و يتمنى لو أنه يتفرغ لممارسة مهنته “كحكيم” عيون، لكن ضميره لا يسمح له بالتنازل عن الحكم و تسليم سوريا للمؤامرة العالمية الخطيرة.. كما صرّح – وتصريحه فتوى بموجب منصبه الرسمي – أنه يجب على الجيش السوري النظامي الرسمي أن يقوم بتدمير أي مكان يصدر عنه النار في مدينة حلب، حتى لو صدرت من منزل أمه و أبيه!.. بناءً على هذه الفتوى تم تدمير نصف مدينة حلب، و استحق لقب “مفتي البراميل” عن جدارة لكن بخسارة، قُصفت منازل عائلته في حلب القديمة و جامع أبيه، و خسر حياة ابنه في حادث اغتيال غامض، و أغمض عينيه عن ظلم الحاكم، و هو يعلم أن الله خير الحاكمين.
لم آسف على أي شيطان خرج علينا بثوب شيخ، لأنه سينال جزاءه العادل سواء في الأرض أو السماء، هكذا تقتضي حكمة الأديان و تحثنا على تمييز الحق من الباطل بالعقل لا بالكلام، لكنني أسفت و رثيت “حال” شيخ آخر، كان يطل علينا بعمامة و طربوش و ثوب العلماء، أفتى بجواز سجود الشباب بالإكراه على صور الرئيس الشاب، ثم اغتيل في حادث مشبوه، رغم سجوده طوعاً للسلطان بكل ولاء.
شيخي العزيز، إذا لم تستحِ فافعل ما تشاء، لكن احترم عقولنا رجاء.
……………………………………………………………………………………………………
جهاد الدين رمضان
في فيينا ٢٣ تشرين الأول / أكتوبر ٢٠١٩
*النص من محض الخيال الواقعي، والصورة المرفقة صورة مفبركة في مختبرات قناة المؤامرة الشهيرة، روّجتها وسائل الإعلام المأجورة لطمس الحقيقة.