ثامر الجهماني: البقعة السوداء كانت أكثر بياضا من دنياي


لوحة الحياة والموت/ غوستاف كليمت

ثامر الجهماني: البقعة السوداء كانت أكثر بياضا من دنياي

زي بوست:

سحبني ملك الموت بعنف، وقال:

انتهت ايامك في هذه الدنيا الغرور، هيا بنا سنلتقي هناك عند السدرة بعد سويعات، فلك في عرفنا ساعات تودع فيها عالمك الصغير إلى عالم فسيح لا متناه، اذهب وودّع أبناءك، وزوجك، وأموالك.

روحك طيف شفّاف، لا يراه الا نحن الملائكة، تستطيع الطيران، كأنك تسبح في مياه خفيفة لا يعيقك وزن أو احتكاك، أنت حر، حرٌ حقيقي.
لا تنسى ملتقانا عند السدرة.

طار الملك كضوء خاطف واختفى، وترك خلفه وهجاً دافئاً غير حارق. اختفى كأنه غير موجود بالأساس. تفقدت المكان من حولي، لعلي كنت نائماً، أحلم، لعلّي مازلت أحلم!

كل ما حولي، وما أشعر به يقول أنني مت، وهاهم أبنائي يبكون، وزوجي كذلك، تتشح بالسواد، وهي التي تكره اللون الأسود.

سيارتي مركونة أمام الدار يعلوها التراب، وهنا أرقد، أو الأصح يرقد جسدي. لا شيء مختلف سوى بضعة ورود عند الشاهدة.

الشاهدة ما زالت جديدة لم يكتب عليها شيء بعد، لكني علمت بأنه قبري، كيف لا أدري، كما الكثير من الأشياء والمعلومات عرفتها دون سابق معرفة، ودون دليل.

يكفي أن تفكر بالسؤال، حتى يأتيك الجواب كفكرة، والجواب قطعي الصحة والدقة، كنبع ماء لا يخرج إلا زلال، بارد، عذب.

شاهدت هناك في الأفق صورتي وأنا جنين، ثم كطفل، تتالت صور حياتي أمامي كمحطات، أذكر تفاصيلها بعناية.

توالت الساعات وانا أودع دنياي، لكن الوقت يمضي سريعا هناك في الأسفل، أبنائي كبروا، وزوجتي عادت لعملها، كأن شيئا لم يكن.

سيارتي بيعت، ومكتبي كذلك، لم يذكرني أحد من الأصدقاء، إلا صديق الطفولة، قرأ الفاتحة فوق قبري، ثم مضى.

كان جدي ومازال، يبدأ يومه الصباحي بتكبيرة صباحية ( يا رب ، يا فتاح ، يارزاق ، يا عليم ….)، ثم يتوجه الى حوض ماء صناعي، بني في مطبخ الدار، ويطلقون عليه إسم “المصنع” ، يتوضأ ثم يملأ سطلاً من الحديد بالماء البارد من المصنع، ويعلقة بالقرب من شجرة النارنج المعمرة، يصلي فرضه ويرفع يده بالدعاء، حتى يسمع طرقاً خفيفاً على الحائط، ينهض من فوق السجادة ويعود ليحمل السطل الفارغ ويملأه من جديد.

كان الوقت لدي أسرع بكثير من الوقت الأرضي، لذلك لم أر جدي يتحرك من فوق السجادة، الا ليملأ سطل الماء.

تذكرت يوما أنني سألته عن حكاية سطل الماء، وعن الصوت القادم من خلف الجدار ، وقتها بسمل وحوقل كثيرا، وراح يتمتم بكلمات لا أفهمها، استمر لاكثر من نصف ساعة، بعدها اندهشنا من طول الأفعى التي تدلت من سقف الغرفة، من بين القصب الممدود فوق الدوامر الحديدية، كان طول الأفعى يتجاوز الأمتار الأربعة، وهي ارتفاع جدار الغرفة، جلست الأفعى بين يديه كأنها حيوان أليف، وهو يتمتم ويقرأ تعاويذ وطلاسم غير مفهومة، ولم شعر أنها استسلمت له تماما، أمسك رأسها وحملها ملفوفة حول ذراعه الأيسر، وصعد بها إلى جبل قاسيون، قال لنا وقتها أنه دفنها هناك بعد أن ماتت.

تركت جدي وسجادته ومصلاه ورحت أبحث ما هية بقعة سوداء خلف الدار تتحرك ببطئ شديد ثم تسكن، كانت الصورة غير واضحة، وكان صوت جديد حنون يأتيني من الأعلى، يسألني هل ترغب بالعودة؟

قلت: بدأت أعتاد على حركتي وواقعي الجديد.

الصوت مرة أخرى يسألني: هل أعتبر هذا جواب؟
قلت : لا أعلم، لكني أثق بك، بماذا تنصحني؟

قال : هذا قرارك، وخيارك أنت، أنت حر في اختيارك.

تحركت البقعة السوداء، عندما تجمهر حولها بعض الناس، شعرت بالبرد يتسلل رويداً رويداً، وتداخلت الغيوم الداكنة في أفقي أنا، صار صوت الملاك يناديني هيا هيا انتهى الوقت.

شعرت بأنني أدخل في ثقب دودي أسود، وكنت أطير بخفة كبيرة، لكن شعوري بالبرد ازداد حتى كدت أتجمد.

عبرت النفق الى مكان أخضر، فيه شجر عملاق أوراقه صفراء تهوي إلى الأرض الخضراء كأنها ألواح خشبية عملاقة، صعدت إلي حيث أقف جنازة يحملها بعض الملائكة، وصوت خافت يقول إقرأ الفاتحة على روح جدك، فقد كان رجلاً صالحاً.

باغتني الصوت اللطيف الدافئ، هيا انتهى وقتك.

-لكني لم أختر بعد، أجبت بصوت كله رجاء.

كانت تلك الفرصة رحمة بك لدعاء وصلني من أسفل، كان رده حاسماً.

-إذا…!. هل توقف الدعاء؟ سألت.
أجابني: نعم.

كان حوارنا سريعاً، وفيه من الجدية والحزم أكثر مما قبل، كأن شيئاً قد حدث، أو تغير.

– لكنني مازلت أرجو عطفك أن تغفر لي سوء تقديري.
اليوم تجزى بما قدمت يداك.
وهل كان خطابك لي سابقاً، غير جاد؟ وأنزهك عن ذلك؟
ليس لك علينا إلا عملك ورحمة لي تقديرها، لكنا قبل ذلك أكرمناك لأجلها، والآن هل تريد أن تعرف من؟
نعم.
-إنها أمك لقد ماتت أمك يا مسكين.
-إنها البقعة السوداء، كان ثوب أمي، أمي تصلي لأجلي، وتختمر السواد حزناً علي، ماتت كمداً، وهي تدعو لحشاشة قلبها أن يرحمه الله.

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s