جميل جرعتلي: القناص

قناص

جميل جرعتلي: القناص
 
 
 
زي بوست:
 
 
 
من القلائل الذين يعرفون كل شيء تقريباً لأنه يرى كل شيء، من عمارته العالية في الطابق الثامن يطل على الأوتوستراد مثل النسر المتحكم بالفرائس، فهو يقتل في المكان المحدد أو يترك للضحية فرصة للنجاة..
 
يضرب في الكتف أو الساعد أو الرجل، لكنه إن غضب، فيمكنه أن يزرع رصاصته في منتصف الرأس تماماً، القناص (س) لا يخطىء أبداً، لكنه بشر مثل بقية الناس، يعشق ويحب ويعاني من الضجر.
 
المدينة تبدو مقفرة تصفر فيها الريح، بينما القناص المعادي على الجانب الآخر من المدينة، ذو مزاج خاص ومختلف، فهو يهوى قتل القطط بسبب ندرة الأهداف في منطقة يسكنها الأشباح والمتحاربون، العالم بالنسبة إليه عبارة عن (زووم إن) مركزة داخل حدقة المكبر الذي يجلب الكائن مهما كان صغيراً من مسافات بعيدة.
 
القناص (ب)، عشوائي ويعاني من التوحد، لذلك فهو يحاول التلذذ بالقتل واختراع أسباب التسلية من أعلى البناية في الجبهة المقابلة للقناص (س)، حيث كان على الطرفين أن يلتقينا في حدقة المنظار المكبر، وأن يخترعا أسباب الاستمرار دون أن يقتل أحدهما الآخر، مرات كثيرة أطلق فيها القناص (س) الرصاص على القناص (ب) دون أن يحاول إصابته، فهو رفيق الليالي الموحشة والخواء الذي ليس من ورائه طائل، العواء البعيد للكلاب الشاردة التي لا تجرؤ على الاقتراب من منطقة القنص، يؤكد حجم الهول الذي حدث هنا، لقد قضوا على كل الكلاب والقطط والغربان، حتى الوطاويط صارت نادرة في هذا المكان بعدما تمرّس القناصان بشكل حرفي هائل، وبات بإمكانهما إصابة الشعرة في رأس الإنسان من مسافات بعيدة.
 
يحدق القناصان ببعضهما عبر المنظار، العيون تتحاور وتتفق على هدنة مفتوحة حتى تهدأ المعارك على هذه الجبهة المقفرة، هناك نقص في الطعام، يقول القناص (س) ثم يهبط درجات الدرج باتجاه الطوابق الدنيا أو ما تبقى منها، ليس هناك سوى بعض المرتديلا والخبز اليابس، إضافة إلى الزيتون الذي تركه المقاتلون وراءهم قبل أن يضطروا لمغادرة المنطقة باتجاه الجانب الآخر من المدينة حيث الهجوم الكبير.
 
القناصان يعرفان حجم المعاناة التي تعصف بهما بسبب الجوع والضجر وغياب أي أثر للحياة، وكيف للحياة أن تحضر وهما مكلفان بإبادتها أصلاً؟. يلوّح القناص (س) لعدوه على الجانب الآخر، ويشير بعلبة المرتديلا وقطع الخبز اليابس، ورغم أن الجسدان غير مرئيان بالعين المجردة بسبب حلكة الليل والمسافة الكبيرة بينهما والتي تصل إلى أربعة كيلومترات، إلا أنهما ودون اتفاق مسبق بدأا يضربان المواعيد على المناظير الليلية كأن هناك تنسيقاً بينهما، يغضب القناص الجائع ويضرب رصاصة على قنينة الماء المتوضعة على حائط البرندا، يضحك الثاني ويرد برصاص التحية والتلويح عبر المنظار.
 
ترى ما اسمك أيها العدو المتواري خلف السواتر والمنازل المدمرة؟ هل أنت من أهل البلد؟ هل أعرفك جيداً لأنك كنت زميل الدراسة؟ أم أنك أتيت مع المقاتلين الأجانب من خارج الحدود؟. الأسئلة التي يمكن أن تشق عباب هذا الليل المليء بالاحتمالات والخطر، كثيرة وشائكة تحمل في ثناياها رائحة الموت، لكن الضجر يفتك بالرجلين الجالسين في أعلى البنايات المدمرة كأنهما يكمنان لبعضهما بعدما رحلت الطيور والحيوانات مع الجنود باتجاه الجبهة الثانية.
 
يخترع القناصان أسلوب التلويح والإشارات للتفاهم، ويحسمان الأمر كي يقتربان أكثر من بعضهما عبر اختيار كتل أبنية متجاورة بعض الشيء، ولأن العلاقة فرضت شيئاً من الثقة بين الصديقين العدوين، فإن كل واحد كان يعطي ظهره للثاني دون أن يخشى الغدر، الضجر يمكنه أن يفعل الكثير، يقترب القناصان قرابة كيلومتر واحد، وينسجان حبل غسيل مركب على بكرة بين شرفتيهما اللتين أصبحتا تطلان بشكل أكثر تشويقاً، يكتب القناص (س) للنقاص (ب): هل تعرف ماذا نفعل أيها الوغد؟ يجيب بالإيماء ويبتسم!.
 
البكرة تدور بين الشرفتين حاملة السكاكر والمكاتيب وعلب التبغ، حتى قناني البيرة والويسكي التي عثرا عليها كلٌ في منطقته، تبادلاها بكثير من المودة والرغبة في التجريب.
 
هل يحتاج السلام إلى جرأة، يقول القناص (س) لصديقه العدو (ب)، وهو يسند رأسه على كتفه ويحدقان سوية باتجاه أعمدة الدخان بينما تتعالى أصوات المقاتلين والجرحى من بعيد كأن كميناً كبيراً أحدق بهم!. يدير القناص (ب) إبرة الراديو فينطلق صوت الموسيقا.. كأن أملاً في الأفق!.
الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s