فوز الفارس: لعنة المتنبّي

لعنة

فوز الفارس: لعنة المتنبّي

 

زي بوست:

 
في بداية مسيرتي التعليميّة وقع اختيار الموجّه التربويّ عليّ للتدريس في إحدى قرى سهل الغاب، وهذه القرى غالبًا ما تحتوي على شرائح وأطياف يصعب الفصل والتمييز بينها، حيث تتطبّع الأقليّة بطابع الأكثرية ظاهريًا على الأقلّ لتبدو جزءًا أصيلًا منها، من يستطيع التمييز بين هذه الشرائح أهل القرية نفسها، أمّا الوافد إليها حديثًا فلا يلحظ أيّ فروق تذكر.
استطعتُ في فترة قصيرة أن أكوّن علاقة متميزة مع طلابي قِوامها الصداقة، ضربتُ بنصائح المحاربين القدامى عرض الحائط، إذ كانت نصائحهم تتلخّص بالحزم وعدم التهاون؛ لأن هذا الأسلوب هو الأجدى ليستطيع المدرّس الجديد فرض هيبته على نفوس الطلبة، خاصة إذا كان المدرّس شابّة في مقتبل العمر في ثانوية مختلطة تحتاج إلى دورية شرطة لضبطها على حدّ زعمهم.
لم تكن الأمور معقّدة إلى هذه الدرجة كما تهيّأ لي من خلال روايتهم، كانت الأمور تجري بشكل انسيابي، لم اضطر مرة لاستدعاء الموجّه أو مدرّس الأنشطة الصفّية ـ مدرّس مادة التربية العسكرية سابقًاـ الذي يتحيّن الفرصة؛ ليفرض سطوته وهيبته اللتان انتزعتا منه على حين غفلة بعد إلغاء هذه المادة من المدراس.
إلى أن جاء ذلك اليوم الأشعث الأغبر الذي أطلّ فيه المتنبي علينا من خلال قصيدة يجّرر فيها ثوب بطولاته وخُيلائه، وكانت تلك القصيدة بالتحديد تنفحني كلّما قرأتها شحنة مفرطة من الحماس تنبثق في حضرة المتنبي، ذو النفس العظيمة والهمّة العالية، وهذا الحماس انتقل بدوره إلى طلبتي وعندما وصلت إلى البيت الذي يقول فيه:
ولا تحسبنّ المجد زقًّا وقينةً فما المجد إلا السيف والفتكة البكرُ
وتضريب أعناق الملوك وأن تُرى لك الهبوات السود والعسكر المجرُ
قفز أحد الطلبة المتفوّقين ليقذفني بسؤال وقع كالصّاعقة على رأسي ورأس زملائه: (آنسة، يعني إذا قتلت بشار الأسد بصير بطل؟!) ـ لا أعلم إن كان السياق الذي اعتمدته في شرح الفكرة قد أوحى للطالب بسؤال كهذا ـ تجهمّت الوجوه واكفهرّت وبدا الذهول سيّد الموقف، استغرق خروجي من الصدمة التي خلّفها سؤاله زمنًا غير يسير لأنتزع الكلمات من حلقي انتزاعًا وأقول له:
ـ من أين هبط على رأسك خاطر كهذا؟ نحن نتحدث عن بطولات ماضية عفا الزمن عليها…
أراد الطالب أن يردّ وكأنه لم يفجّر قنبلة للتوّ، أسرعت إلى إسكاته لئلا يورّطنا بنقاش يعلم الله وحده إلى أين يفضي؟ ونبّهت الطلبة إلى أن كلّ ما يدور في الصف يجب أن يبقى حبيس جدرانه، وكنت أظنّ أن الموجودين متجانسون كلّهم فلم تكن هناك أيّ فروق توحي باختلاف أحدهم.
في الفرصة خلوت بذلك الطالب ونبّهته إلى خطورة ما قاله بطريقتي الخاصة التي توخّيت فيها أقصى درجات الحذر، ولم أنسَ إخباره أن للجدران آذان تلك المقولة التي رافقتنا دومًا، والله يستر لم نكن قد خبِرنا الله يفرّج بعد.
في اليوم التالي استدعاني مدير المدرسة من حصّتي على عجل، كانت هيئته توحي بوقوع أمر خطير خمّنته فورًا، وحين أخبرني بأن المندوب الأمنيّ للقرية يريد مقابلتي أسقط في يدي، كانت تلك المرّة الأولى التي ألتقي فيها مندوبًا أمنيًا مع فكرة مسبقة عن طرقهم وأساليبهم المتنوعة في إرسالك خلف الشمس ( بيت خالتك) من خلال تلك القصص التي رواها لنا أهلنا عن أحداث الثمانينات في حماة والاعتقالات الظالمة التي طالت خيرة شباب البلد والتي لم تكن تحتاج أكثر من كلمة أو شبهة أو وشاية يلفّقها أحد الحاقدين عليك لأتفه الأسباب، فما بالك بعبارة تمّ من خلالها المساس بهيبة الوطن وعرين سيّده؟!.
بدا المندوب الأمني في غاية اللطف وهو يحدّثني عن الوطن والقيادة الحكيمة التي تقود مسيرة التحديث والتطوير، ومن ثم عرّج إلى المؤامرات الخارجية التي تُحاك من قِبل الإمبريالية والصهيونية وأداتهم المجرمة التي نتعهّد بسحقها كلّ صباح أثناء ترديدنا الشعارـ لم تكن تلك المؤامرات قد ارتقت إلى مستوى الكونيّة حينهاـ ، ليصل بعدها إلى موطن الشاهد وحادثة أمس، لم أتوقّع أن تتسرّب الحادثة إلى الخارج بهذه السرعة، فقد كنت أتّكأ على محبة طلابي لي والتي ظننت أنها ستكون سببًا في التزامهم بوصيّتي، أو أن تكتم فترة على الأقل ففي النهاية لم تكن هناك أية ضغائن بيننا.
من خلال عبارات متلعثمة ركيكة خانتها القواعد والقدرة على الربط، حاولت إقناعه أن تلك العبارة التي تفوّه بها الطالب كانت مجرّد زلّة لسان لا يقصد بها شيء، لكن المندوب ركّز على السيّاق الذي تعمّدته لشرح الأبيات والذي أفضى بالطالب لقول عبارته تلك، ظننت أن الجدران بالفعل امتلكت آذانًا حينها كان مسترسلًا في حديثه وكأنه كان بيننا أثناء الحادثة، حاولت حشد عبارات كثيرة وكلمات وحروف لأقول له ما معناه: أنني لا أجرؤ على التفكير في عبارة كهذه فضلًا عن قولها، فكيف أوحي بها وهي لم تدر بخاطري أصلًا ولن تدور في أيّ يوم من الأيام، بعد ذلك حاولت اقتباس أسلوبه وحديثه عن القيادة الحكيمة، بدأ حبّ الوطن الذي لا ينفصل عن حبّ سيادته ينساب على لساني بعبارات رنّانة؛ لأرقّع بها موقفي وموقف طالبي بعد أن حلّت علينا لعنة المتنبّي.
ـ ولكنّك حاولت التستّر على الطالب، ونبّهت الطلبة إلى ضرورة التكتّم على ما قاله.
ـ ظننت أن الطريقة الأفضل هي تجاهل ما قاله، لأن الحديث في ذلك يعطي ما قاله أهمية.
ـ وهل تبدو لك حادثة كهذه بسيطة ويمكن تمريرها بسهولة، عبارة كهذه تمسّ بهيبة قيادتنا الحكيمة وأمن الوطن، أم أنك لا تكترثين؟.
في النهاية اضطررت لفصل مساري عن مسار الطالب وأن أتبرّأ مما قاله:
ـ لست أنا من نطق بتلك العبارة في النهاية، ولست مسؤولة عن تأويلات طالب لنص قاله صاحبه منذ قرون، أنا فقط شرحت البيت كما يفعل أيّ معلّم آخر.
حين دار بيني وبين مدير المدرسة نقاش حول الحادثة وكان المدير مثلي قد أصيب بحالة من الهلع، أبديت غضبي ممّن سرّب ما حصل، ليخبرني المدير بأن تلك الحادثة لم تكن لتكتم بوجود طالبة تجمعها بالمندوب الأمنيّ صلة قربى، وحين أبديت استغرابي وأنّها لم تبدُ مختلفة عن بقيّة الطلبة، أخبرني أن ذلك شيء طبيعي في قريتهم.
كرهت تلك الطالبة منذ ذلك اليوم، وجاهدت أن أبدو طبيعية فقد نبّهني المدير إلى أن كل كلمة وكل تصرف من قبلي سيكون محسوبًا عليّ في الأيام المقبلة، مضى العام الدراسيّ ولم يحدث أي شيء لي أو لناطق العبارة، استطعت حينها أن أتنفّس الصعداء وأن أشعر كما لو أنني نجوت.
مضت على تلك الحادثة عشر سنوات، لألتقي في بداية الأحداث بأحد طلّابي من تلك القرية في مديرية التربية، كان طبيعيًا أن نعود بالذاكرة إلى الوراء لأسأله عن بقيّة الطلاب ومصيرهم، وحين سألته عن ذاك الطالب الذي نطق تلك العبارة ـ يبدو أنني لم أجرؤ على نطقها حتّى ذلك الحين وخاصة أنّ الظرف الذي تمرّ به البلاد حساس ومصيريّ ـ أخبرني أنه حرم من التسجيل في الجامعة لأسباب أمنية وأخيه كذلك، وأنّه التحق بالثورة منذ بداياتها واستشهد منذ فترة قريبة، بينما اعتُقل أخوه في أول حملة مداهمات للقرية بالرغم من أنه لم يشارك في أي نشاط، شعرت بحزن عميق على الحال التي آل إليها مصير أفضل طالبين قابلتهم خلال مسيرتي التعليمية خلقًا وأدبًا وذكاءً منقطع النظير.
ـ قال لي طالبي: الحق عليه ـ الله يرحموـ المندوب الأمني لضيعتنا كان بوقتها يمحي أكبر تقرير بنص كيلو حمّص وعلبتين سردين، هي تسعيرتو وكل أهل الضيعة بيعرفوها، لو شايف خاطره كان كل شي مات بأرضو وما ضلت الحادثة نقطة سودا بملفه الأمني.
عادت لعنة المتنبي لتطلّ برأسها من جديد، خفت أن تكون نقطة سوداء كهذه ما زالت محفوظة في ملفي وعمّا قريب تظهر، ظننت بعد فترة من الحادثة أنّ النسوة بمنأىً عن ذلك ولا تشكّل أيّ تهديد للسيادة الوطنية، أو أن المندوب اقتنع بمبرّراتي التي سقتها له في حينها، لكن ما حصل في بداية الثورة أثبت أن لا أحد فوق الشّبهات لم تسلم البشر ولا الحجر من انتقام النظام، فهل أسلم أنا؟ في النهاية قررت أن أتوكّل على الله وأبتعد عن توقّع الشرّ وانتظاره كيلا يقع، فالحادثة مرّ عليها سنوات عشر ولو كانت (بدها تشتّي كانت غيّمت).
لم يكد يمضِي على لقائي بطالبي شهرين حتّى أبلغت من قبل معتمدة الرواتب بإيقاف راتبي حتّى أراجع المندوب الأمني، وطمأنتني إلى أن الاستدعاء روتيني سؤال وجواب ولست الوحيدة فهناك أساتذة كثر حصل معهم الأمر نفسه وعادوا سالمين بعد أن طيّبوا خاطر المندوب (همست بالعبارة الأخيرة في أذني)، لقد منحتني وبكلّ بساطة رأس الخيط المفضي إلى النجاة.
كانت آثار النعمة وبحبوحة العيش تظهر جليًا على هيئة المندوب، ومع ذلك كان وجهه منفًرا وكريهًا كوجه قرد فرّ لتوّه من الأدغال وارتدى بذلة عسكرية جعلته يظن نفسه جنرالًا، رحم الله هاتيك الأيام! يبدو أنه قبر الفقر للأبد.
حين بدأت الأسئلة تتطاير من فمه ملفوفة بأنفاس كريهة عن بعض الأقارب المنتمين إلى العصابات المسلحة وأين قضوا، شرعت باختلاق ميتات وأمكنة مناسبة، ومن ثمّ بدأت أنفيٍ صلات القربى التي تجمعني بهم وأحوّلها من الدرجة الأولى إلى الثالثة فما فوق؛ لعلّي أفلح في الخروج من دائرة الشكوك، أسعفني لساني في صوغ أجوبة واثقة لا يعوزها الهدوء، وحين بدأت أشعر بأنني غادرت منطقة الخطر، عادت حادثة المتنبي من جديد لتجرّدني من رمادية حرصت على التفيؤ في ظلالها زمنًا؛ ريثما يتبين الخيط الأبيض من الأسود، إذًا بذور الثورة والتحريض على السيادة الوطنية موجودة لديّ منذ سنين وموثّقة، إذا كانت قيادتنا الحكيمة تنبش قبور الأموات لتعرف سبب موتهم ومكانه على كثرتهم وفي غمرة انشغالها بحرب كونية، فهل يعقل أن تنسى الأحياء وما اقترفوه في زمن السّلم؟!.
كيف لي أن أقنعه أنني في ذلك الحين كان سقف طموحاتي في التغيير والحرية أن أتحرر من عبء الأعمال المنزلية وتربية الأولاد؛ لأجتمع بين الفينة والأخرى بصديقات لي حول فنجان قهوة ونميمة طازجة، والسؤال الوجودي الذي يقضّ مضجع يومنا: (شو رح نطبخ اليوم)؟.
المهم (وبلا طول سيرة) تمّ الاتّفاق على المعلوم في النهاية، كلّفني جهلي بالتسعيرة القديمة وتجاهلي إيّاها تسعيرة جديدة خيالية تكفي لشراء أطنان من الحمّص ومسمكة معها، بعدها تمّ شطب اسمي من قوائم من بذروا أفكارًا مسمومة في نفوس طلبتهم، من قِبل مؤسسات إكثار البذار وتسمين التهم العابرة للأزمنة.

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s