يوسف سامي مصري: مسافة بساق واحدة.. واحدة فقط
زي بوست:
دخلَ السّجان المهجع رقم 3 وأمر بصوت جهوري السَّجين -265- بالخروج معه، رتَّبَ السَّجين حاجياته البسيطة وخرج بحراسة العنصر صوب سيارة نقل السُّجناء إلى محكمة أمن الدولة في العاصمة.
مضى على السجين – 265 – أكثر من عشر سنوات في ذلك السّجن الصّحراوي الكالح، أمام أُفق لا يتعدى الأربعة أمتار، ومع مرور الزمن تأقلم مع أفقه الضَّيق وألوانه الشَّحيحة، فغدا مكانه الوحيد لممارسة لعبة الحياة بكل ألوانها.
كان يعرف سلفاً أن المحاكمة شَكلية، فلماذا كل هذا الإصرار عليها وإرهاقه بالسَّفر إلى العاصمة، واقترح على العنصر الذي رافقه بحذرٍ شديد، إلغاء تلك السَّفرة والمحاكمة معاً توفيراً لأموال الدولة، لكن العنصر استغرب أن يوجه السَّجين له مثل هذا الطلب ولم يُعر كلامه أدنى اهتمام.
انطلقت سيارة نقل السُّجناء واستلمت الطريق الصَّحراوي وانطلقت وراءها السّيارة البيضاء التي لم يهدأ زمورها على طول الطريق وهي تحثّ السيارة المتهالكة على الإسراع.
أطل السّجين -265- برأسه من النافذة العلوية الضيقة على الأفق الواسع المكتظّ باللون القرمزي لصباح بدأ بالتشكُّل منذ هنيهات، لم يرَ مثل هذا الشفق الأحمر الطازج منذ عشر سنين، حاول توسيع حدقته قسراً ليأسُر كل خيوط الفجر المتسرَّبة من جوف الأفق، وكم تمنّى في تلك اللحظات أن تتعطّل إحدى السيارتين، ليعبَّ كل ما بوسعه من الشَّفق الطازج والفراغ.
عندما رأوه رجال السّيارة البيضاء مُعلقاً على النافذة الضيقة أمروه بصوت زاجر بالنزول عن النافذة، فأخفض رأسه وعاد إلى أفقه المعتاد وكوَّم نفسه في جوف السَّيارة واستسلم لنوم قَلِق.
عندما استيقظ كانت السيارة المتهالكة وظلها الأبيض قد وصلت العاصمة وتوقفت على إشارة المرور و أطلَّ السَّجين– 265 – على النافذة العلوية ليتعرَّف من جديد على العالم الخارجي المتحرّك للمرة الأولى منذ عشرة سنوات، وهالهُ هذا الكم الهائل من الناس والحركة والألوان. و فَرِحَ على عكسْ ركاب وسائقي السَّيارات المتوقفين قربه بإشارة المرور وبلونها الأحمر الذي مكّنه من رؤية هذا المنظر.
صحا السَّجين 265 من شروده على صوت زمّور السيارات المتوقفة بتناغم واحد، وهي تلحّ على الشرطي الذي يَحرُس ألوان إشارة المرور، بفتح السَّير لسيارة الإسعاف التي اصطفَّت مُرغمة في آخِر الرتل.
رفعَ الشُّرطي عصاه الملونة ملوِّحاً للسّيارة المتهالكة وظلها الأبيض بالسير ليفسح المجال لسيارة الإسعاف بالعبور.
تحركت السيارة المتهالكة في مشيتها المتثاقلة، يتبعها ظلها الأبيض نحو وجهتها لتعيد عزف الزمن على إيقاعها البطيء. أمّا السجين – 265- فقد جرَّ عينيه عنوة من الشوارع، واستمر يشيّع إشارة المرور الحمراء بعينيه وهي تذوي. تجاوزتهم سيارة الإسعاف مسرعة وهي تَلمُ زمورها المهيب.
ربّما نجا راكب سيّارة الإسعاف من الموت بعد وصوله للمشفى بالوقت المناسب. ولكن الموت سيستطيع اللحاق بالسيارة المتهالكة وبالسجين، ولن يأبه بظلها الأبيض.
ففي الجلسة الأولى والأخيرة، حكم عليه القاضي المتخشّب الوجه بالبقاء خلف أفقه الكالح والشّحيح بقية حياته.
في طريق العودة، لم يُزعج السّجين -265- نفسه لا بالتلصُّص على الحياة ولا على الألوان، وبقي قابعاً في جوف السّيارة المتهالكة، ولم يخرج منها حتى وصل الطبيب الشّرعي للسّجن، وكان آخِرَ ما علق على عينيه هو اللون الأحمر لإشارة المرور وهي تذوي ببطء.
يوسف سامي مصري- اللاذقية