جهاد الدين رمضان: أوعىٰ يا خاي
زي بوست:
أخي الأكبر “ضياء” كان شعلةً من الذكاء و شعاعاً من الضياء، كان رائدنا في الوعي و التفكر منذ صغره على ما أذكره منذ صغري أيضاً، على سبيل المثال أول ما تفتح وعيِ السياسي في أول السبعينيات من القرن العشرين، تفتحَ على عبارة كتبها أخي ضياء على باب الخارج (المرحاض) من الخارج، تقول :
(هنا باب غرفة الملك الخائن فلان بن علان)
و عرفت فيما بعد على كبري و تعلقي بقراءة الكتب من هو الملك الفلاني، و لماذا أعتبره أخي خائناً للعهد .
وأول هتاف سياسي سمعته بأذني مباشرة من فم صاحبه، كان منه حين خرج مع رفاقه بمظاهرة عقب إعلان وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، يومها طافوا كل شوارع حي “السكري” حيث كنا نقيم بحلب الشهباء، حتى وصلوا بلافتاتهم و أعلامهم و صور الرئيس الراحل إلى محيط مدرستي “مدرسة الثورة للبنين” و مكثوا هناك في الساحة المقابلة لبابها الشرقي، يرقصون و يهتفون و يلوحون بالرايات و صور الرئيس الذي مات، و رأيت أخي ضياء من ثقب باب المدرسة يهتف معهم قائلاً :
(بالروح بالدم نفديك يا جمال)
اعترف لي أخي ضياء مؤخراً، بأنه كان يكره جمال عبد الناصر في تلك السن، سن المراهقة و ما قبل، و يدعي حبه لحزب البعث “جكارة” (نكاية) بالجد “قرعوش” و حباً في إغاظته فقط ، إذ كان يتربص بنا على مدخل حارة الحلاق “أبو نديم درويش” ، و عندما يمسك بأحدنا يسأله من تحب: عبد الناصر أم حزب البعث؟
فإذا أجابه المجني عليه – الولد أو الفتاة – بأنه يحب الرئيس جمال عبد الناصر و يكره البعث، فقد رضي عليه الجد و أطلق سراحه قائلاً له عشت و أحسنت، أما المشاكسون أمثال أخي ضياء و مثلي، فيهربون من قبضة القرعوش و يصرخون في وجهه : أنا مع البعث و ضد الناصرية و أكره الرئيس جمال. و الويل لنا إذا أمسك بنا الجد، فهو يأخذ المسألة عن جدّ، و لا يقبل فيها أي هزل أو مزح.
لكن في الحقيقة و الواقع لم ينتمِ أخي ضياء لأي حزب أو تيار سياسي، كان و مازال تقدمياً ينتمي للإنسانية فحسب.
كما كان أخي ضياء سباقاً في التفكير، كان سباقاً في التنوير، أحب النور و كان مثل اسمه، فهو أول من أدخل التلفزيون إلى بيتنا، و أول من أدخل النور الكهربائي إلى بيتنا الجديد في دار “الشيخ عبد السلام” بمنتصف حارة “شجرة زهر العنقود” المطلة على الدار، البيت الواقع في الطابق الأول الذي بناه أبي فوق الطابق الأرضي القديم، في هذا الطابق الجديد خصّ أبي أخانا ضياء المراهق بغرفة خاصة له وحده، و أخي ضياء هو من استجرّ لها الكهرباء قبل أن يتمّ البناء، حاول أبي و جارنا “أبي محمد” بعد إتمام البناء تمديد التيار لبقية الغرف و المطبخ و الحمام، طبعاً قاما بتمديد الأسلاك في الحيطان ظاهرياً كعادة تلك الأيام و لسهولة تصليح أي خطأ قد يحدث، و لتخوف الجار مساعد أبي الشديد من صعق الكهرباء، فقد قاما بذلك على البارد بدون توصيل الأسلاك بالتيار الجاري لمعرفة السلك السالب من الموجب، و بعد الانتهاء من التمديدات ذهب أبي إلى عداد الكهرباء لوصل الكابل بالتيار، بينما بقي الجار في الممر يراقب سلامة الشغل و كيف ستشتعل الأنوار، لكن اشتعلت النار في الأسلاك كفتيل البارود، و صعد منها الدخان الأسود الكثيف، مع صرخة أبي محمد بذعر:
وقف يا أبو ضياء، يحرق ماظينك* احترق البيت، عجّل افصل الكهرباء.
للأسف ضاعت جهودهما هباء، و خسر أبي ثمن المعدات و اللمبات، و الحمد لله لم يحترق البيت بعد أن وصل الحريق لقرب العداد بمتر عندما استجاب أبي لنداء الجار و فَصَلَ التيار، ثم اضطر أبي للاستعانة بخدمات أخي ضياء على مبدأ المثل القائل (أعطِ خبزك للخباز..).
على سيرة الكهرباء، لا أنسى المقلب الذي صنعه أخي ضياء برفيقي “مصطفى” ابن الجيران، فقد تمكن أخي ضياء من توصيل “ميكروفون” لجهاز الراديو المركون لصق الحائط الفاصل بين غرفة الجلوس و الغرفة التي تليها، مرر سلك الميكروفون من خلال ثقب خفي في الحائط خلف الراديو، و طلب مني أن أشغل الراديو بحضور رفيقي مصطفى و على أسماعه، و تخفى أخي في الغرفة الخلفية، و بدأ البث من الميكرفون السري بينما المذيعة في الراديو تقرأ نشرة الأخبار، فجأة طغى على النشرة صوت شاب يغني :
يا مصطفى يا مصطفى
أنا بحبك يا مصطفى..
صرخ رفيقي مصطفى مندهشاً :
الله أكبر! كيف عرفوا بوجودي هنا في الإذاعة حتى قطعوا نشرة الأخبار و غنى لي المذيع أغنية (يا مصطفى)؟
تابع الراديو الغناء :
تعالَ يا مصطفى
يا مصطفى تعال
روح يا مصطفى
يا مصطفى روح
يا مصطفى أمك “فلانة” بتريدك
روح يا مصطفى لعندها في الحال
فرك مصطفى عينيه، و شدّ أذنيه، و ضرب خديه، و قال:
و الله العظيم هذا المذيع يقصدني أنا، يعرف اسم أمي و يعلم بوجودي هنا، و الله العظيم ماني بقيان لحظة معكم في هذا البيت المسحور، بيتكم مسكون بالجان و العياذ بالله .
انتعل مصطفى حذاءه بسرعة هابطاً الدرج، و قد هبط قلبه بين قدميه من الدهشة و الخوف، و هبطت خواصرنا على الأرض من كثرة الضحك.
وظّفَ أخي ضياء مواهبه في علم الكهرباء بتعلم مهنه (كهربجي سيارات) في محلة “الراموسة”، الحي الصناعي لتصليح الشاحنات الواقع في آخر البساتين الجنوبية من حي السكري، و أظهر معلميته المبكرة في الاختراعات التي قدمها هدية لسيارة أبي التكسي السياحية الانكليزية “فوكس هول” البيضاء، تلك التكسي التي اشتراها من فائض ثمن بيعه لدار الشيخ عبد السلام، و شراء الشقة الأرضية مع قبو في دار “مريومة” أم عبد الله في منتصف العقد بنفس الحي، فرحنا كلنا حتى أمي و أبي بالسيارة الجديدة على حساب حزننا على فوات دار الأمس، الدار العربية الواسعة ذات الطابقين، و شجرة زهر العنقود الباسقة على رصيفها تظللنا بالخير و الحب، عوضتنا سيارتنا عن شجرتنا و ذكرياتنا القديمة، و نسجنا على مقاعدها ذكريات جميلة نتذكرها بحنين حتى اليوم، كل فرد من العائلة له ذكرى خاصة معها و فيها، و أجمل ذكرى مشتركة يوم أخذنا أبي فيها برحلة وداع لم الشمل، أما ما أذكره بخصوص أخي ضياء من مغامراته الكهربائية في السيارة فهي كثيرة، و لا أنسى يوم صنع مفتاح تشغيل “الزمور” (منبه الصوت) الآلي الذي يعمل عند فتح باب السائق، كان الجيران يستيقظون على صوت زمور السيارة كلما فتح أبي الباب، حتى أبي نفسه ضجر من هذا الاختراع و قطع توصيلات الزمور كلها و لم يعرف كيف يعيدها لمفتاح المقود الأصلي الصنع، احتاج أخي ضياء لبعض المستلزمات لكي يُصلح العطل، فاضطر لقيادة السيارة بدون زمور، و كنت أرافقه مع بعض الرفقة ببهجة و سرور، قاد بنا أخي السيارة بحذر و ضجر بلا منبه صوت، حتى وصل إلى بيت صديقه “محمد” قرب مغارة “أبو العمرين” غرب الحي، نزل من السيارة و استدعى الصديق عند الضيق، و قال له هيا اصعد معنا لتصرخ بصوتك العالي الأجش على المارة في الطريق، فقد تعطل الزمور و لا أعرف المرور في الشوارع بدونه، و بالفعل لبى محمد استغاثة أخي ضياء، و مدّ رأسه من الشباك و صار يصرخ في المشاة بدل الزمور:
(اوعى حجي، اوعى خيت، اوعى يا ولد)
كم تفاجأَ الناس بهذا الصوت حين يستديرون باتجاه مصدره، فيجدون سيارة بدلاً من الدراجة الهوائية التي يستخدم سائقها هذه الطريقة البشرية في تنبيه الغافلين!
و كم نبهنا أخي ضياء عن أمور كثيرة غفلنا عنها بدون قصد، و قال لنا مراراً:
اوعى يا خيت، اوعى يا خاي
بعد تخلص أبي من الزمور الاتوماتيكي المزعج الذي يوقظ الحارة كل صباح عند فتح باب السائق، صنع أخي ضياء قفلاً لكهرباء السيارة في صندوق القفازات على التابلو، و قال لأبي كلما تعود من العمل على التكسي و تركنها أمام البيت، شغّل قفل الكهرباء لمنع الغرباء من سرقتها، فهذا القفل يمنع وصول الكهرباء لمحرك السيارة فلا تشتغل مطلقاً، و في الصباح افتح صندوق القفازات و ألغِ القفل فتشتغل السيارة بعد تدوير المرش (الكونتاك) بالمفتاح.
عمل أبي وفق خطة أخي ضياء لمنع سرقة السيارة بانتظام، يفتح القفل في المساء و يغلقه كل صباح قبل توجهه للشغل، لكنه في يوم من الأيام المحفورة في ذاكرتي، نسي إغلاق القفل و أخذ يدير المرش و السيارة تأبى التشغيل، جرب تدويرها عن طريق تعشيق الغيار بعد دفشها بالنزول، فلم تشتغل السيارة الحرون، صرخ لي و لأخوي “علاء” و “صلاح” و بعض فتيان الحارة، كان أخي ضياء في شغله بحي الراموسة يعالج غير سيارة، طلب أبي منا دفع السيارة من الخلف بينما جلس وراء المقود يحاول تشغيلها بجهد، وصلنا في دفع السيارة إلى الشارع الموازي لسكة القطار شرق السكري، طلب أبي منا التوقف عن دفعها لنستريح كلنا قليلاً، مرّ بنا رجل ادعىٰ الخبرة في تصليح السيارات، و عرض خدمته على أبي الذي تقبلها بسرور، و فتح له غطاء المحرك و قال له هيا جرب حظك يا وجه الخير.
حاول فاعل الخير كل جهده وعبثاً دارت السيارة وسط الجموع المحتارة، أخيراً ركبه اليأس و قال لأبي مستسلماً:
خذ السيارة إلى ميكانسيان مختص في حي “الميدان” و خذ حسبك لله، و إذا أردت أن أساعدك سأجلب لك موتور “كوزي” أو سيارة تجر سيارتك يا عم، فماذا تقول؟
قال أبي على الفور:
افعل يا ابن الحلال فقد عجزت، و شكراً لك على طول.
جاءت سيارة الجر، و سحبت سيارة أبي بعد الاتفاق على السعر و التوكل على الله، و في محل الميكانيكي في حي الميدان، فحص المعلم “آدواديس” السيارة من المحرك حتى الأنوار في الخلف، لم يجد أي عطل أو خلل في وظائف أجهزة السيارة، فكر قليلاً و هو يدخن بعمق، اقترب من أبي و قد لمعت في رأسه فكرة مجنونة، عقد جبينه و سأل أبي بشك:
بالله عليك يا معلم، مانك حاطط مفتاح سري يمنع وصول الكهرباء للمحرك؟
ضرب أبي على وجهه كمن تذكر أمراً بديهياً نسيه بالكلية، و ضحك قائلاً:
نعم كلامك صح، نسيت ألغي القفل، الله يخزي الشيطان و يلعن أبو القفل، ألغيه نهائياً و ريحني من اختراعات ابني ضياء و هوسه بالكهرباء.
كان أبي يستبق الأحداث على صعيد العائلة عندما أخذنا في رحلة ثلاثة أيام إلى الساحل السوري في ذاك الصيف، قال لنا حينها سنذهب في رحلة عائلية قبل أن يفرّق الزواج و خدمة الجيش شملنا، و لم يدرك وقتها أن جيشنا لا زواجنا هو الذي سيشتت شملنا فيما بعد، بعد ربيع عام ٢٠١١ الحارّ، حيث تفرقنا كل أخ و أخت في بلد من بلاد الله التي قبلت بلجوئنا على كره، حتى أبي خرج مكرهاً مع أمي من بيت العائلة الكبير في حلب، إلى بيت صغير في ضاحية من ضواحي مدينة “غازي عنتاب” التركية الشبيهة بحلب، و مات هناك دون أن يحقق حلمه في العودة إلى حلب، و لم أحضر دفنه عليه الرحمة و السلام .
أما أنا و عائلتي الصغيرة (أنا و زوجتي و الولدان) فقد توجهنا إلى مصر أم الدنيا في آخر يوم من عام ٢٠١٢، لم أكن أحسب بأن هجرنا للوطن سيطول، قلنا هي بضعة شهور و تنعم سوريا بالحرية و الكرامة و نعود، لكن أخي ضياء اتصل بي هاتفياً من “بوخارست” حيث يقيم من سنين، قال لي بحرقة و ألم :
يا خاي البلد راحت في خراب طويل، و لن تعمر و ترجع كما كانت ولا بسنوات.
استغربت هذا التشاؤم من أخي ضياء في ظل توسع الانتصارات الوهمية مع شعارات الحرية و الكرامة و إرادة الشعب، قلت له مستنكراً:
ماذا تقول؟ سنوات؟ قل هي بضعة شهور و نعود.
رد أخي بلهجة الواثق كمن يرى المستقبل بعينيه:
لا تغلط، اوعى يا خاي. البلد راحت في داهية أظلم و أطول من حرب لبنان، مازلنا في البدايات، و ربما نحتاج لسنوات و سنوات حتى تنتهي الحرب، و نحتاج لعقود حتى تعود البلد كما كانت بلا حقد و خو…
قاطعته لأحتفظ ببعض الأمل:
يعني راحت معنا شي خمس سنين؟
و لا خمسة و لا عشرة، و حط مقابل سنوات الحرب مثلها أو ضعفها حتى تعمر البلد و النفوس، اذهب و ابحث عن بلد أوربي تلجأ إليه، العرب لا تتأمل منهم أي خير.
يعني أنت لا تنصحني بتأسيس أي مشروع في مصر؟
اوعى يا خاي، دير بالك تصرف فيها فرنك، مصر واقفة على كف عفريت، روح هاجر على السويد فقد فتحت أبوابها في وجه اللاجئين السوريين، و استقبلتهم بكل ود.
كنت أحسب ما قاله أخي ضياء ضرباً من الحلم، لكنني بعد أن عبرت البحر و صرت هنا في النمسا لاجئاً يبحث عن الغد، أتذكر حديث أخي ضياء و ما حلّ بمصر و بمصيرنا، و أتذكر كل ما فعله سابقاً من أجل تنويرنا بكل الوسائل و الحب، أتذكر الصحف و المجلات و الكتب و الأغاني و الشعر و المسارح و الحفلات و الكاسيتات و الراديو و التلفزيون و جلسات البلكون.. و أسمعه يقول لي بود :
اوعى يا خاي
………………………………………………………………………………………………………….
جهاد الدين رمضان
في فيينا ٣ تشرين الثاني / نوفمبر ٢٠١٩
*النص من مذكراتي و رحلة العمر، و العنوان عبارة تستخدم لحث الآخرين على اتخاذ الحيطة والحذر من خطر وشيك، و هي صيغة الأمر باللهجة الشعبية الشامية من المصدر الوعي.
و عبارة يحرق ماظينك يكثر استخدامها في لهجة ضيعتي “دارة عزة” بمعنى الله يحرق ظنونك، و يقولون أيضاً يقطع ماظينك بمعنى قطع الظنون.
و الصورة المرفقة لسيارة الفوكسهول الإنكليزية الصنع، تمثل الموديل الذي يطابق شكل سيارة أبي الوارد ذكرها في متن النص، منقولة من النت بموجب أحكام المحتوى المشاع.