ثامر الجهماني: يا بهية خبريني يا بوي عا للي قتل ياسين
زي بوست:
لم تكن جارتنا أم فريد رحمها الله تعالى تعلم أنها ستفقد بعض أبنائها بأحداث دراماتيكية تشبه ما يحدث في الأفلام العربيّة، أو الهنديّة لو شئتم، ولم يكن ياسين ابنها القتيل الوحيد، بل كان أول القتلى.
بهيّة (أم فريد)، الأرملة العلوية الهادئة الصبور، كانت ضمن سلسلة من الأرامل في حارتنا من بينهن المرحومة الأرملة السنّية أمي، والمرحومة الأرملة العلوية أم نادر، والمرحومة الأرملة السنّية زوجة عمّي أم علي.
كنا في الحارة نلعب حد التعب، ونعطش ونجوع، إلى حدود لا توصف. ولا نعرف متى ندخل أحد البيوت أو أيهما ندخل، فكل البيوت واحد، وكل الأرامل أمهاتنا، فكنا نشرب الماء من يد أم نادر، والسندويشات من يد أمي، وبعض الفاكهة والنارنج من يد أم فريد. بقينا ونحن صغار لا نميز بين البيوت، وبقينا كذلك حتى كبرنا قليلا، لكن معزّة نساء الحية واحدة.
كانت أم فريد أكثرهن صمتاً، وحزناً، لم أكن أفهم لماذا؟
لها من البنات والبنين ما يسد عين الشمس، لكن غياب أحدهم كان موجعاً، ومؤلماً حد الموت.
ياسين ابنها الأوسط، الشيوعي المعتقل، الذي كان بالنسبة لي كالأسطورة، (اعتقل ضمن حملة طالت العشرات من كوادر رابطة العمل الشيوعي في سوريا بداية ثمانينات القرن الفائت).
ما كنت أذكره إلا وحشاً، لطيفاً، ذو لحية ضخمة، وجثة ضخمة، كان يشبه ( ديميس روسيز)، كنت صغيراً حين غاب، حين زارهم جلاوزة النظام، زوار الليل، كنت نائماً، وفي الصباح سمعت النسوة يطبطبن على كتف المسكينة بهية، لغياب ابنها ياسين.
لم تكن مصيبة بهية بغياب ياسين، الشيوعي فقط، فهي تعلم أنه يقرأ كتباً كثيرة، لا تعرف ما يقرأ، لكنها تعرف أنه شيوعي. كان يمازحها ياسين، ويقول لها أنا من رابطة العمل، فتعتقد أنه من جمعية العمال، في البلدية وهو معاون سائق باص البلدية، المشهور في المدينة، فكل درعا تعرفه، تعرف هذا الوحش الناصح الذي حشروه خلف مقعد المعاون (قاطع التذاكر).
إذا ً هو بالنسبة لبهيّة، يعمل خيرا ً ليساعد العمال، لكن ما يحزّ في قلبها، أنهم أخذوا معه ابنها الصغير رأفت، طالب البكالوريا المجتهد.
_يا ولداه كان رأفت مريضاً حين اعتقلوه..!
وكان يلبس لباس النوم، عادوا ليعتقلوه، لانه حذّر أصدقاء شقيقه، ليلاً، خوفاً عليهم من الاعتقال.
كانت الروايات التي تحيكها عقول الناس، تقطّع القلب، على رأفت الذي أخذوه ليعذبوه أمام شقيقه ياسين.
طالت السنين كثيراً، وانحنى ظهر بهيّة، وكاد بصرها يغيب، وهي تنتظر ولديها.
ذات يوم، كانت فرحتها لا توصف بعودة ابنها الصغير، بعد سنين، لكنها كالعادة فرحة ناقصة، شوقاً لرؤية ياسين.
كان صوت (محمد طه)، لا يغادر مخيلتي، وهو يصدح باغنيته الشهيرة :
(يا بهية خبريني يا أبوي عاللي قتل ياسين…)، كنت أستبدل كلمة قتل، بكلمة خطف، رغم صغر سني، كنت أعتبر أن رجال الأمن هم رجال عصابات يخطفون الناس ليلاً.
كنت لا أزال في أول صباي وفتوتي، حين خطفوه.
وصرت شاباً يافعاً، حين أخبروني أن ياسين عاد، وأطلقوا سراحه.
شاهدته أول مرة، على (حافّة البطين)، ينظر إلى أطراف المحطة، كان هزيلاً جداً، بلا لحية، لم يتجاوز وزنه خمسين كيلو غراماً، يا لهول الاختلاف.
وقفت إلى جانبه لاسلّم عليه، رد عَليَّ باقتضاب وكأنه يقول لي ابتعد عني، أنا لا أصلح للصحبة، فالقرب مني خطر على شابٍّ بعمرك.
لكن إصراري كان لا مفر منه، تكرّر لقاؤنا، على ( حافّة البطين)، سمعت منه حكايا كثيرة، وعلمت أنه يحمل أمراض الدنيا بجسده الهزيل هذا.
حتى أنه أكّد لي أنهم لم يخرجوه إلا لقناعتهم، بقرب موته كعادته مع أمثال حالته.
لاتعرف بهيّة كيف توزّع فرحتها، التي لم تكتمل، تكررت العمليات الجراحية في جسد ياسين الهزيل المتعب، كانت كلها ناجحة، وكأن القدر يرسم نهاية مختلفة عما توقعها طيور الظلام، زوّار الليل…. تزوج ياسين، نعم تزوج وأنجب، وزوجته حامل بجنين من صلبه.
أخبروني بعد سفري أن ياسين، مات بحادث سير هو وابنه البكر، في أحد شوارع دمشق، خلف مشفى المواساة. كان على عجلة من أمره، كان يحث خطاه ليقف بجانب زوجته، التي ترقد على سرير المشفى لإجراء عمل جراحي في عينيها.
قيل لنا مات ياسين بحادث سير ومات معه من كان يحمل اسمه فوق الأرض، ابنه البكر.
وقتها لم يعد من الممكن أن نستبدل أية كلمة من كلمات ( محمد طه)، ويا بهية خبريني يابوي عاللي قتل ياسين…..!
كانت بهية كالطود الشامخ، الذي تقطعت حباله، كالعلم الذي تتلاعب به رياح عاتية، يصرخ الآه ولا يقع.
سنوات فقدت بعدها، فلذة كبدها، ابنها المهندس جمال على يد عصابة، كانت تسرق مواد بناء في ضاحية درعا، لم يستطع السكوت، فضربوه.
مات جمال مظلوماً، بعد فترة…. وصارت بهية، كالجبل تنهار حوافّه، رويدا رويدا.
تمضي السنين، وكانت ثورة الحرية. كنت أتمنى أن تكون بهية ( أم فريد)، أمي حيّة، حتى أخبرها من قتل ياسين… أو من قتل جمال…..
لكن لم يشفع لها أن يكون بعض أحفادها، من نشطاء هذه الثورة، حتى تتسابق قذائف مجهولة المصدر، وتقتل بكرها الكبير فريد ( أبو علي)، آه يا يا أماه، يا بهية لا أعرف من قتل ابنك فريد.
لكننا سنواصل سيرنا لنخبر الجميع، عن القَتَلة، ومن قتل ابناءنا.
ويا بهية خبريني يابوي عاللي قتل ياسين… جمال…. فريد… والقائمة تطول.