جهاد الدين رمضان: الدانوب يبكي قويق *
زي بوست:
دعاني صديقي “شيرينغ كنتي” إلى نزهة في نهر “الدانوب” في مدينة “فيينا” قبل سكني فيها بربيع عام ٢٠١٦ ، قلت له:
لا داعي للنزهة فيه، فقد رأيته من القطار، و هو صغير غير جميل ولا يستحق عناء الزيارة، شرب فنجان قهوة في أي مقهى أفضل من هذا العرض.
استغرب صديقي من ردي على دعوته بهذا الكلام المجحف بحق النهر العظيم، ثاني أكبر أنهار أوروبا و أجملها، قال مصححاً فكرتي عنه:
لا، ليس ما رأيته هو النهر، إنما تلك قناة قديمة من القنوات المتفرعة عن النهر، ونهر الدانوب أكبر و أجمل مما رأيت.
تعني هذا “النهير” الموازي لسكة الأوبان (قطار الأنفاق رقم ستة في فيينا) المشابه لنهر “قويق” ليس هو أصل النهر؟
استغرب شيرينغ هذا الرد الغامض بالنسبة إليه، فسألني بدهشة و فضول:
و ما هو قويق؟ أهو نهر دولي لم أسمع به؟
ضحكتُ ملء قلبي رغم الحزن، و قلت له:
لم تسمع به صح، أما دولي فلا للأسف، هو نهر صغير حقير جفت مياهه في بلدي بمدينة “حلب” حيث نشأت، سأحكي لك عنه في حضرة نهر الدانوب الكبير، هيا بنا إليه نطير.
في طريق المترو (قطار الأنفاق) إلى محطة الوصول للنهر، مررنا بقرب القناة و أشرت إليها قائلاً لصديقي شيري – و هو اسم التحبب من شيرينغ – كنت أحسب هذه القناة هي النهر، قال لي انتظر قليلاً حتى نصل، وصلنا إلى محطة أخرى وقد أخذت تتلألأ قريباً منها مياه نهر كبير، سألته ثانية أليس هذا هو النهر المقصود؟ قال لي نعم، لكنه النهر القديم و ليس هو غايتنا، سننزل في المحطة القادمة بعد عبور الجسر الطويل، بعد أن نتجاوز الجزيرة الضيقة بين النهرين القديم و الجديد، هيا جهز نفسك للنزول.
يا الله ما أجمل النهر و المنتزه حول ضفتيه، و ما أكبر النهر بفرعيه، قل عنه دجلة و الفرات، بل هو النيل في عظمته و جماله و بهجته، حقاً يستحق هذا الدانوب كل الغزل الذي تغنّى به الشعراء، و هو حقيق بالخلود في القطع الموسيقية و اللوحات و الكتب .
لاحظ صديقي انبهاري بالنهر و المنتزه و الجسر الجبار، سألني بغتة:
هل أعجبك المكان؟ و هل يشبه نهركم المقاقي (قالها هكذا) في حلب؟
ضحكت و قلت له:
بالتأكيد لا يشبهه بشيء، نهر قويق لا يستحق اسم ساقية مقارنة بهذا الدانوب الخالد . غير أني أرى نهرنا “قويق” أحلى و أعظم، ولربما أنت أيضاً ترى “نهر غينيا” الذي يمر في دولتكم “غامبيا” أحلى و أعظم و أبهى من نهر الدانوب، أليست الأوطان أغلى و أحب على قلب الإنسان؟
نعم، أصبت يا جهاد، رغم أني هجرت وطني الأفريقي الفقير إلى هذا البلد الأوربي الغني الجميل، فما زلت أحمله في قلبي كأغلى ما أملك في دنياي، و “نهر غينيا” الذي تشكل ضفتاه (بعرض عشرة كيلومترات وسطياً) وطني على شكل لسان – من حدود “السنغال” في الشرق حتى مصبه في المحيط الأطلسي – هو أجمل و أعز على قلبي من الدانوب.
صمتَ صديقي شيري لبرهة و هو يتأمل أمواج النهر من فوق الجسر، ولمعتْ عيناه ببريق حزين يشبه الدمع، تنهد بعمق و قال:
أتعرف يا صديقي بمَ أفكر الآن؟ لقد خيّلَ إليّ أن مياه الدانوب تشكلت من دموع الحزن على جدي الأعظم “كونتا كنتي” و رفاقه من آلاف الرقيق، الذين كانوا يساقون بالقوة و الحديد عبر بحر الظلمات** إلى “العالم الجديد” ليباعوا فيه كعبيد!
ايه صحيح، كذلك أرى الدانوب يبكي نهر قويق، يبكي مياهه الشحيحة التي اصطبغت بلون الدم النازف من جثث الشهداء، في ذلك اليوم الذي استفاقت فيه حلب الشهباء على جثث مجهولة، مقيدة اليدين من الخلف، تطوف النهر كسفن الدانوب.
لا أعلم هل كانت دموعي أم دموع صديقي أم دموع حمامات السلام التي سقطت من الجسر، و تحالفت مع دموع النهر الحزين.
…………………………………………………………………………………………………
جهاد الدين رمضان
في فيينا ١١ تشرين الثاني / نوفمبر ٢٠١٩
*النص من مذكراتي و رحلة العمر، و الصورة منقولة من النت لنهر قويق الذي فاض بجثث الشهداء في أول أحداث عام ٢٠١١.
**بحر الظلمات هو من التسميات القديمة للمحيط الأطلسي الذي يفصل القارة العجوز (أوروبا) و القارة السوداء (أفريقيا) معاً عن العالم الجديد (قارة أمريكا).
و كونتا كنتي اسم بطل رواية “الجذور” للكاتب الأمريكي الأفريقي الأصل “أليكس هيلي” التي تحولت إلى مسلسل تلفزيوني شهير في سبعينيات القرن العشرين، وصديقي شيرينغ من سلالة هذا البطل.