عبد الغني حمادة: الموناليزا ترشف القهوة
زي بوست:
– 1 –
صرخت مدرسة اللغة العربية في وجوه طالباتها، بعد أن نعتتهن بالغباء، خبطت الطاولة بيدها، وقالت:
– المستحيلات فقط ثلاث.
هناك في شمال الكون، فوق القطب برمح، التقيا، كان الغبش حائلا بين الملامح.
رياح الشمال حين تهب، تكسر أجنحة الفراشات، فتهيم عن تفسير تلك الظواهر المرعبة.
وبعد رمحين أو أكثر، وعلى شارة المرور بين المدارين، تصادمتا مرة أخرى، وكانتا ملسوعتين بوجع البعد والاغتراب، حدقت إحداهما بالأخرى، فقالت الأكثر حيرة:
– ألستِ من أبحث عنها؟!.
– بلى . لقد أهاضت الريح أشرعتي، ثم قذفتني إلى حيث ترينني.
كان العُري يبحث عن حفنة دفء، يعيد للروح سكينتها، ويرسل الخوف مخفوراً إلى الطرف الآخر من الكون، فوق الشمس برمح.
إذاً، إنه الحب الذي كانت الفراشتان تبحثان عنه مذ خرجتا من شرنقتيهما.
****
– 2 –
وهما يتحرران من أسر جدران المدرسة، دار حوار مضطرب:
– لأجلك أحببت الحياة يا فاطمة.
– يا للغباء !! . لقد نضبت ينابيعه يا مجنون.
– ومن وشى لك بذلك؟!.
– لوثته الذئاب، فغارت مياهه الصافية.
– إذاً، فكيف استمرت الحياة، أتستمر الحياة بدون حب؟!!..
– العناية الإلهية أنقذت الإنسان ، فثقب الله الأرض، وشتت السموم في فضاء الكون، خلف الشمس برمحين.
– هذا يعني أنك مررت بتجربة فاشلة.
-كان نذلاً، رأيته بعيني هاتين، يخونني مع أخرى، كان سعيداً لحظتئذٍ.
مدَّ يده ليلمس أصابعها، نفرت مصعوقة:
– وأنت نذل وقذر، تريد امتصاص رحيقي بثمن زهيد، ببضع كلمات معسولات لا معنى لها لديّ ولا قيمة، تريد أن تستبيحني.
– لكنني أحبك يا مجنونة.
– بل قل يا رخيصة…
هو لا يحب المرأة الرخيصة، لا تثيره السهلة، يحب امتطاء الصهوات العنيدة، وسلوك الدروب الوعرة، يلهث خلف السراب ولا ييئس، تستهويه المغامرات.
كيف سيعيدها إلى الحياة، ويعلمها فلسفة الحب المستحيل، ويلقنها أبجدية جديدة؟!!..
لا يعرف، لكنه لن يقف عاجزاً، سيستمر رغم الحواجز والستائر والجحيم المنتظر.
***
– 3 –
رأى ” الجيوكندا” مئات المرات ، وفي كل مرة يراها بصورة مغايرة للأخرى، إنه سحر الفنان الذي أراق دماء روحه على ريشته، فصارت ألواناً تنبض بألق الحياة، لم يزر باريس، ولا روما، ولا موسكو ، ولم يدخل ” اللوفر” ولكنه رأى ” الموناليزا” معلقة في صدر القاعة الملكية، تنثر تلك الابتسامة الغامضة التي حيرت الفلاسفة والفنانين والأدباء، وكل يفسر ابتسامتها على هواه.
***
– 4 –
لم يُعرْ بالاً للدوائر الصغيرة المترجرجة على سطح بحيرة أسرته، وبدأ شيئاً فشيئاً يفقد السيطرة على زمام شطآن المياه، التي راحت تمارس مداً وجزراً على حوافها مهددة بتعكير صفائها.
ابتسامتها الغامضة فعلت فيه سحراً عاتياً حملته إلى الخوض عميقاً في بحر المغامرة، كان يظن نفسه شجرة قوية تتحدى العواصف، ونسي أن عجائز الجذوع تفقد الكثير من عنفوانها أمام عطر الأنثى الذي عجزت مخابر الكون كلها عن استنساخه، لكل أنثى عطرها المميز، فأي عطر شم في ذلك الصباح!!.
حينها كانت مشرقة متوهجة، تبتسم لحبات المطر التي كانت تمارس غزلاً مشبوباً مع تجعدات شعرها الفاحم المشوب بشذرات من جلنار.
تحت خيمة الصمت، قال لها قرب موقد الحزن:
– أنت تعذبينني بشرودك العميق.
ظلت صامتة، مستغرقة في بحر الغموض، فتحت محفظتها الجلدية السوداء، ثم ناولته ورقة كتبت فيها.
– ” ألجم جنونك، فأنا فراشة محطمة الجناح، تهشمت أحلامي منذ ألف عام وعام، ما أراك إلا ثعلباً ماكراً خبيراً باقتناص الطرائد الضعيفة ” .
كتب لها على الجدار بإصبعه:
– بل أنا أبحث عن فتيل يذيب جليد القلب.
كانت أصابعها الناعمة ترتجف، وكأنها تبحث عن دفء يتغلغل في ثنايا الشرايين المتحفزة للانفجار.
قالت له حين كانا على بعد رمحين من الدفء:
– أتظن أنك قادر أن تشعلني من جديد؟!.
– عليَّ شرفُ المحاولة، فكلما ازددت عنادا ، أشعلتِ فيّ فتيل التحدي من جديد.
– وكلما ازددتَ إصراراً تمسكت، أكثر من ذي قبل، بعنادي.
تلك هي المسألة إذن!!.
أهي أحجية؟!!..
لغز يحتاج لمن يفك طلاسمه.
أيقظها الجرس من شرودها، دخلت صفها، كتبت على السبورة باللون البني:
” اكتبي موضوعاً عن مستحيلات الحياة ” .
أمسك لوح الطباشير الأزرق، وطلب من طالباته ” أن يرسموا فراشة ترفرف بأجنحتها فوق زهرة الجلنار “.
*****
– 5 –
التقى الحزن والفرح في رواق المدرسة الطويل، تصارعا، ودافع كل منهما عن وجهة نظره:
– لِمَ ترتدين هذا اللون الأسود ؟!!..
– ليس شأنك.
– الأسود يليق بك يا فاطمتي.
رسم الفرح وجهها بتلك الابتسامة المحيرة، علقها في صدر عينيه المتقدتين بجمر التوق، تمتمت شفتاه:
– لم أنم ليلة البارحة .
– ليس ذنبي، وكلامك هذا لا يقدم ولا يؤخر، ثم أنسيت أنك قلت لي بأنني أختك الصغرى ؟!!..
– أمنَ الخطأ أن يحبَ الإنسان أخته؟!!..
– يحبها كأخت لا كعشيقة، وشتان ما بين الحبين أيها المراوغ.
وقف أمام المرآة، حدق في ثلج رأسه وبياض شاربيه، تجاعيد الوجه تفضح مراهقته المتأخرة.
– أنسيتَ أنكَ كبرتَ ؟!!..
لطمةٌ صفعت وجهه، فتح ” ألبوم الصور ” كان شاباً، أقنعته أمه بأم أولاده المنهمكة دائماً بأشياء أخرى، أما ذلك المراهق العاشق دائما، فآخر اهتماماتها، فكثيراً ما كان ينام بربطة عنقه وجواربه، وكثيراً ما كان يجد نفسه، في الصباح وحيداً في الفراش يلاعب أحلامه، وكم مرة اندس جانب جثة ترتدي لباساً ميدانياً، وكأنها تنتظر أمراً عاجلاً لخوض معركة مع تباشير الفجر الأولى “.
****
– 6 –
ترفض احتساء القهوة:
– أنا عصبية..
– ولأجلك تركت القهوة.
– أنت جبان ومراوغ، تتقن أدوار الثعالب.
خدعته، أو ربما جربته، صبت فنجاناً، ثم حبست ” سيجارة ” بين أصابعها، وراحت تتلذذ بمصمصة اللفافة، وتطبع الحمرة الأرجوانية على حواف الفنجان المستسلم لبضاضة أصابعها.
– أنت سادية تتلذذين بعذابي.
– هذا ليس شأنك.
– أراك متمردة كثيراً يا عنيدة .. أهو الحب إذن؟!!..
قبل أن يدخلا على طلابهما رأى ” الموناليزا ” تبتسم فقال لها:
حين تبتسمين ترفرف فراشات القلب، ويهطل ربيعي مطراً رخياً، وتزهر الأرض بالأقحوان وياسمين الفجر، تركها حائرة ودخل الصف، أمسك لوح الطباشير الأزرق وكتب لطالباته على السبورة: ارسمي ” الموناليزا ” وهي تبكي من الفرح.
دخلت على طالباتها مبتسمة، وطلبت منهن كتابة موضوع عن ولادة مستحيل جديد اسمه الحب.
**********