عبد الرحمن الابراهيم: أسرار القبرات
زي بوست:
صباح القبرات السمر
بصراحة أنا لا أقرأ إلا النادر من المناشير الطويلة، ولذلك أكبح رغبتي في الإطالة، إلا أنني في هذه المرة، سأطيل المكوث فوق هذه الأسطر، لتكون إجابتي وافية كافية للأصدقاء الطيبين الذين سألوني كثيراً، عن سر علاقتي بالقبرات.
القبرة تحتل أول صفحة في الذاكرة، مؤطرة بأصابع أبي المكتظة بأشواك الحصاد، فكانت القبرة آيتي الأولى في قصيدة رثائه(تعبت يداك).
القندريسة أول هدية حملتها لي تلك الأصابع الصبورة، والقبرة أول حكاية سمعتها عن لسان أبي، فتعلمت منها الحب بكل حنانه والحزن بكل أشجانه، قال أبي في الحكاية: وأنا أبحث لك عن قندريسة جميلة، رأيت (قنبرّة) وقد كُسِر ظهرُها، تعلو وتهبط فوق عشها وتزقزق مستغيثةً، فذهبت اليها لأستطلع الأمر، فرأيت واحدا من أفراخها في فم حيّةٍ حمراء، فقتلتها والقيتها بعيداً عن العش، وعادت الأم إلى أفراخها.
وفي الصفحة الثانية من الذاكرة، كنت أتعلم مرغما الحصاد بالمنجل، فأصبت ركبتي وأبكاني الألم، ثم اكتشفت بأن دمي يسيل منها، فهرعت إلى أمي لأشكو لها علّ أبي يعفيني من هذا الجحيم، فوقعت عيني على عش لقبرة فيه خمسة أفراخ، فرحتي بالعش أنستني ألم الجرح، ورحت أهتف: لقيت عشاً .. لقيت عشاً، سمع ابي فحذرني من لمسه، ولما وصل إلى حيث أنا والعش، حصد ما حوله وتركه مسيجا بغمر من القمح، وهو يعظني: حرام يا ابني.. أتريد بأن يخطفك أحد من أمك وأبيك؟!لم يكن أبي يعلم حينها، بأنه سيأتي على السوريين زمان، تحكمهم فيه عصابة مارقة من كل الأعراف والقيم الإنسانية، تخطف الأبناء من أمهاتهم وتقتلهم جميعاً!
نشأتُ بروحٍ مترفةٍ بالشرود في الأمداء، مطواعةٍ للتأمل، تلميذة حنينٍ نجيبة، وقصر العريض (في الصورة المرفقة) الذي يربض بجوار بيدرنا من جهة الشمال، هو المكان الوحيد الذي يجيد – بمواطناته من القبرات الحالمات – الاحتفاء بهذه الطقوس، ما جلست مرة على بساط عشبه، ولم أكن محاطاً بأنبل قبراته، يعزفن بالزقزقات بحّةَ موسيقا تقشعر لها أهداب الروح، وهي تفتح حقيبة الحنين، لتقع يدها على أول جزرة زرقاء، أتى بها ابي من بازار المعرة، وكنت قد قضمتها بدون غسيل، ولم يزل من بنفسجها على شفاهي طعم الفرح، ثم تقلّبُ (كماجات) أمي التي انضجها جمر التنور في أواخر الخبز، لتعثر على التي طُليت بزبدة الغنم مكافأةً لي على مساعدتها في عمل الخبز، ثم تقع عينها على المرحى الزرقاء، مزينةً بتوقيع معلمي ومدير مدرستي عبد العزيز الموسى، تقديراً لجمال موضوع التعبير، الذي نال إعجابه، فأمر زملائي بأن يصفقوا لي كثيراً، حتى تسامقت في بحر النفس أمواج الزهو، ثم تشمُّ رائحة أول سيكارة، جمعتُ تبغها من أعقاب (الحموي) التي كان يلقيها الكهول، على أثر نوبة سعال طويلة، وبكامل قطرانها الدبق، وهم في طريقهم إلى المسجد، ثم تنتبه لصفط الراحة، الذي كان يرقد في صندوق جدتي المقفول، وهي لا تعلم بأن قفله الهرم، بات ينفتح من غير مفتاح، فيسيل لعاب الروح وتزيد حلاوة الحنين، ثم .. وثم .. الخ، وما أخذتني التفاتة بين ثم وثم، إلا ووجدتُ واحدة من القبرات تعتلي حجراً، ساهمةً تشرد في البعيد، وتترقرق في عينيها عذوبة الحنين، وهذا السر وحده يكفي لأكون متيّماً في القبرات.
لقد خصّ الله القبرةَ بتاج السموّ، فما رأيتُ ولا سمعتُ عن أميرٍ احترم تاجَه، كما تحترم القبّرةُ تاجَها، فهي أميرة مدنفةٌ بالحياء، ومولعةٌ بالسموّ والكبرياء.
والقبرة شاعرة عشق، وتعرف بالفطرة بأن الكتابة تقزّم الشعرَ وتحوّل بحورَه اللا ضفاف لها إلى جداول عقيمة، فتعيشه وتشدوه وكأنها هي القصيدة، وما أروعها من قصيدة وهي تعشب بشدوها أحزان العشاق الراحلين على مفارق الدروب.
والقبرة لا تهبط في العشق ولا تحب الهابطين، تمارسه عالياً وهي تحلق في الفضاء بعفافٍ لا يعرفه الكثير من البشر، وهي تدرك الفرقَ بين الحب والتزاوج، فإذا حان موعد الأخير، مارسته في الظلام بعيداً عن عيون الخلائق.
التخمة والسمنة والترهّل من ألدّ أعداء القبرة، ولشدة عفافها تعيش على الكفاف، وتسرف في ترتيل مواجدها، فهي تشرد وتتأمّل وتغني مواويل الحنين، أكثر مما تأكل ومما تنام، والقبرة موجوعة بحب الوطن، فلا تهاجر بل تموت حزنا على المهاجرين.
مرابع الكوخ وطنٌ لسرب من القبرات، تحلق في سمائه تدعو له وتمطره بأغنيات الحب والسلام، فلو كان لطيّاري أسراب قصور الحقد والاستبداد، قلوب كقلوب قبرات الكوخ ، لما قُتل طفلٌ ولا بكت على فراقه أمٌّ ولا تهدّمَ بيتٌ على رؤوس ساكنيه ولا تدمّر الوطن!
ولولا خشيتي من الحسد لقلت لكم : بأن قلب حبيبتي مملكة من قبرات، فهل من سرِّ أنبل من هذا السرّ في علاقتي بالقبرات؟!
صباحكم مترف بقصائد القبرات
