وائل عصام: من ذاكرة حرب تموز.. كلمات للجدة الراحلة تريزا
زي بوست:
كتبت هذه الكلمات في الذكرى السنوية الأولى لوفاة الفاضلة تريزا الحاج، والدة الاخ الكبير الأستاذ نخلة الحاج..
نعي لروحها، واسترجاع لفصل من الذكرىات في جنوب لبنان ٢٠٠٦
بين زحمة الراحلين، يستوقفنا وجه يغمرنا بالحنين، يحكي وجع السنين..
برتقالة من شتات الجليل، حطت رحالها في الرميش بعد تعب، أنجبت نخلة وكرم عنب.
حيثما التقيناها، كانت الجدة الجليلية تشع محبة ونور، بهجة وحضور، تحيطها هالة من الألق، وتغمرنا بروحها العذبة، وقد اختصرت قصتها أوجاع جيل عاصر أشد حروب المشرق ضراوة واقسى النكبات مرارة، وارتسمت على وجهها حكايات أزمنة عاشتها عند خاصرة البلاد، من نكبة الاربعينات الى الحرب الاهلية في السبعينات، لحقبة جيش “لحد”، فعصر حزب الله، فصيف تموز الساخن.
وسط هذا المحيط المتلاطم، كيف لقارب صغير أن يبحر ؟!
كان على أهل الجنوب ان يتحسبوا لعواصف كل مرحلة، وعكس المرحلة، ويقيسوا تقلبات الزمان بالميزان، فاليوم جمهورية الفاكهاني، وغدا اقطاعية “لحد”جنوب الليطاني، وفيها كان العسس يفتش البيوت، ويجمع الأبناء ذخيرة لجيشه، لكن الجدة الجليلية، كانت تخبىء صغارها بين شتلات التبغ، وكروم العنب، فلن تعطي أبناءها لمن سلبوا أرضها.. وكما صبروا على قطاف حقولهم ١٩ شهرا، بانتظار ربيع ابنائهم، احتملوا لسنين، فصول الزمان والسنين.
شتاء بيروت.. شتات ومطر في مار الياس، تقطر القلوب شوقا، وينزف السقف دمعا، تنهمر حبات العنب على خد نخلة، أما حراس الأرز فيبحثون في المخيم عن حصاد.
صيف تموز الساخن، بلدات لاهبة، عيتا الشعب ، عيترون، بنت جبيل، مارون الراس، وبينهما خيمة لجوء واحدة، الرميش.
لقرون مضت، تآلف أبناء جبل عامل، على رائحة التبغ والبارود، ينجو عصفور من شظايا قذيفة، فيولد برعم قرب شتلة تبغ نحيلة.
واليوم، نازحون هم، يبحثون عن مأوى في بيوت النازحين، يطبخون قمحهم في “ركوة” القهوة، ويشربون من بركة تحملق في السماء كخرزة زرقاء.
نصف قرن مضت على الهجرة الاولى للجدة تريزا، ذاقت طعم الشتات مرتين، ولا تريد الثالثة، “أنا لا أهاجر مرتين” كما يقول درويش، وكما قالت هي: “آني طلعت سنة ٤٨، وما بدّي اطلع اليوم من بلدنا، تجوزت بالرميش وبدي ضلني بالرميش”.
وللبقاء مؤونة لازمة، ليس اقلها هاتف قمر الثريا، يتغذى على ضوء الشمس لا الكهرباء التي هاجرت هي الاخرى.. تطمئن ابناءها عبر اثير الثريا: “منشكر الله، المسلّم الله”.
وبعد تموز، “بكرا بيجي نيسان”..
في الربيع، وكلما عرجنا جنوبا، نتوق حنينا لشركاء الذاكرة، “بروحي تلك الارض ما أطيب الربى”، وفي زيارات السنين الأخيرة للرميش وقرى الجنوب الوادعة، كان الجد الحاج مزهوا دوما ببساتين الزيتون، وكانت الجدة تريزا، تحتفي بنا بحواديتها الشيقة، على مائدة عامرة ب”اللبنة” والزيتون”، في حضرة الوالد الجليلي الذي يطل علينا بالعقال العربي، بصورة من زمن الابيض الاسود.
قليلة هي اللقاءات، لكنها كيمياء الأرواح، فنحن أبناء أمهات شربن من ينابيع صفد.
في الخريف الأخير..دقت أجراس الكنائس، تنعي برتقال الجليل، عزاؤنا في النخل وكروم العنب..
رحم الله الجدة تريزا الحاج..الحية بذكراها أبدا..
“من آمن بي ولو مات فسيحيا”..