عبد الغني حمادة: اعتذار
زي بوست:
لم يصدق ما تراه عيناه في ذاك الأصيل المائر بخيوط الشمس المذهبة، التي راحت تحيك لوحات ملونة تتناثر في جنبات الحديقة العامة بحلب، فلونت النوافير ببهائها وسطوتها، وتراقصت الأشجار المستيقظة، توّاً، من غفوتها الشتائية، فبدأت أوراقها تومض وتخفت مع انسلال الأشعة الأرجوانية بين أغصانها المتفتحة ببراعم غضة معلنة تجدد الحياة بكل ألقها وعنفوان ربيعها، الذي بسط رداءه على زنود الأرض ومدّ أصابعه لتجوب منحنياتها ووهادها الدافئة، ورش عطوره على مساكب الورود.
ظن أن احتفالاً منظماً تجري مراسمه في دروب الحديقة، بحر يموج بطوابير من البشر، مئات من الأمهات يحملن أطفالهن مغتبطات برذاذات النوافير المتهادية برفق على البحرة المدورة، شبان لا حصر لعددهم، يقذفون بعيونهم في الجهات كلها، لعلهم يظفرون بوجه ساحر يضغط على أعصابهم، ويشتت ما تبقى من ثورة شبابهم، عشرات الأطفال يقفزون على نضارة المرج، غير مبالين بما تطؤه أقدامهم الصغيرة، وهم يلاحقون كرات ملونة حائرة لا تعرف من ترضي من الأطفال العرقانين.
عبثاً، كان يبحث عن وجه ينام تحت لحاف أحلامه، ويهفهف بأجنحته فوق سريره، لم تكن ذات جمال صارخ، يوقظ ما ينوس فيه بين الحياة والعدم، لكنها كانت تمتلك أدوات أخرى أشد مضاء من تكوينها الخارجي، اعترف لها صراحة في لحظة توهج:
– أنت توظفين أنوثتك ببراعة، لاسمك معنى آخر عندي، لأصابعك، لصمتك، ولشعرك هذا أيضا!!..
ولعنادك طعم آخر.
ما كان هناك موعد مسبق مع تلك التي لم تقبل اعتذاره حين لمست أصابعه شعرها المعقوف في غفلة منها، فتركته يكسر غيظه بمطرقة الندم، ويعاقر الذكريات بحسرة.
لمحها تجلس قبالة قفص حديدي ملون، صنعته يد حداد ماهر، استخدم جل خبرته وبراعته، ليخرج من بين يديه قفصاً ملفتاً يلاحق فيه قرد أنثاه التي لا تكاد تستقر على حال، خجلى من نظرات المتحلقين حولهما، وهم يرمون ما بأيديهم من بذور دوار الشمس وبقايا حبات التفاح وأعقاب ( السجائر ).
حين تمكن القرد الذكر من أنثاه بعضة خبيثة، راح الرجال يرمقون وجوه نسائهم، وكأن كل واحد منهم يقول لمرافقته:
– لو كنت قرداٌ ، لقبلتك أمام الجميع!!.
فتضغط على أصابعه، وتهمس في أذنه ما يلهب رأسه.
ابتسمت تلك التي على الكرسي، بوجهها، وهي توارب النظرات خلسة نحو ذلك المشهد الحميمي، وتسد أذنيها ، خشية أن تسمع استغاثات الأنثى المضطربة داخل القفص ، لقلة حياء، أو جرأة ذلك الذكر الذي حاول أن يعتذر بطريقته الخاصة، فحاول جاهداً أن يقبّل قدم أنثاه، إلا أنها كشرت عن أنيابها، مما جعله يقفز إلى أعلى قبة القفص، ويلقي بنفسه جثة هامدة على الأرض. حينئذ ، صرخت تلك التي كانت توارب نظراتها، وانخرطت في نحيب شديد.
أسرع الرجل لتهدئتها، فمدت ذراعها، وانداحا في ذلك الحشد الهائل من البشر.