عبد الرحمن الإبراهيم: ذاكرة المقبرة
زي بوست:
مررتُ بها وسلمتُ على سكانها، فأخذتني شردةٌ تجوّلتُ من خلالها على قلوب الكثيرين منهم على أنها ما تزال تخفق، واطّلعتُ على بعض حسراتها التي ما تزال غضّة تحت الثرى، فوجدت واحدةً من الحسرات وتكاد تشمل جميع النائمين هنا، ألا وهي موتهم قبل أن ترى عيونهم سقوطَ النظام، وأما بقية الحسرات معظمها لجيلٍ تربى على أن يعيش مناكدا لفطرته، جعل من العادات البالية صنماً ومكيجها بشيء من الدين دين الاستبداد وليس دين الله، ليخجل من أشيائه الجميلة ويكتمها، ويعلن أشياءَه القبيحة بشيء من التباهي.
الحاج الفلاني على سبيل المثال.. كان يقول لأقرانه وبمنتهى الاعتزاز: (لا أذكر أنني في يوم من الأيام قبّلتُ واحداً من أولادي وإني لأستسخف من يفعل ذلك) ليتمنّى لحظة موته لو أنه أمضى عمره كلّه في احتضانهم وتقبيلهم، والحاج الفلاني الذي أقسم على أن يضع [بريمه] في الزبالة، إذا وافق على زواج ابنته من ذلك الكلب، وقد صار كلباً فقط لأنه أحبها، وأضمر في نفسه أن يفني أيامَ عمره في سعادتها، فظل الحاج طوال حياته.. كلما شاهدَ ابنتَه حزينةً.. لسعتْ قلبه الحسرة ومات ملسوعاً بها، والآخر الذي أخذته العزّة بالإثم.. فكابر ولم يعتذر لصديقه الذي يحب، عن الذنب الذي اقترفه بحقه، فعاش ومات مسكوناً بحسرة أنه لم يفعل ما يجب أن يفعل، وأما الحاجّة الفلانية ويوم كانت صبيّةً.. فمرّ بها من كانت تتمناه، وهي تقصف قصلَ القمح على ظهر الشكارة، وقد رمقها بنظرة حبٍّ عميقةٍ وطويلة، فكابرَتْ وتجاهلتْ وراحت، بعدما تجاوزها، تلتهم بعينيها أثرَ خطواته، أملاً بأن يعيد الالتفاتة، لكنه لم يفعل، فصار من نصيب غيرها، وظلّتْ تحترق بحسرتها حتى ماتت، وكذلك الذي أوقعَ فلانةً في حبه، وأقسم لها الأيمان على الوفاء.. وأغدق لها ما شاءت من الأماني العذاب، ثم داس على كل ذلك، فخذلها وتركها للعذاب والشماتة، وتزوج غيرَها نزولاً عند أوامر أبيه، فعاش ومات شقياً تأسفاً وحسرة على ما فعل، وذاك الذي لم يكن عنده أمنية سوى أن يتعلّم على دقّ الزَّمْرِ، وما منعه إلا الخشية من المجتمع، وما سمع مرة نغماته تتهادى إليه من بعيد، إلا وأكلتْ قلبَه الحسرةُ بأنّه لم يتعلم، حتى مات مختنقاً بحسرته.. و.. و.. و..
الكثير الكثير من الحسرات التي تغصُّ بها ذاكرة المقبرة، ولو اطلعتَ عليها لقلتَ: هذه ليست مقبرة وإنما مستودع كبير للحسرات، فما كان مني إلا أن شاركتها بحسرتي، وحنوت عليها بدمعةٍ حَمَلَتْ أرقَّ معاني الغمام، عساها ولعلّها تلطّف من لظى الحسرات!