عبد الغني حمادة: اليعاسيب

عبد الغني حمادة: اليعاسيب

زي بوست:

قبل أن تلجَ غرفة المبنى الكبير، يستقبلك ” مهران ” بحفاوة مبالغة، يتأبط ذراعك، ثم يقودك إلى غرفة الاستقبال ، يتهلل وجهه، فيما لسانه يزغرد بالترحيب:

  • يجب أن تشرب القهوة أولاً، هذه تعليمات المعلم.
    الفضول يغزو قلبك وعقلك، فتسأله:
  • أنا مستغرب.
  • لا، لا يا أستاذ، لقد تغيرنا كثيراً، أعطانا المعلم تعليمات جديدة لاحترام المواطن، وتنفيذ طلباته دون تذمر أو تأفف.
    تنهض مستاءً، تمد يدك لتكرم الآذن، فيحلف برأس أمه، رافضاً تلك الهفوات التي كانت ترتكب سابقاً، تجيل النظر في مبنى البلدية، غرفة الأرشيف، غرفة المحاسب والجابي، لم يتغير فيها شيء، حتى أن قطعة المكيّف الخارجية لم تزل في مكانها فوق الباب، ولكن ما يلفت نظرك هو تلك الورود الفواحة المتناسقة في أحواض تنضح بالرطوبة، وأزهار الجوري الملونة تتمايل مترنحة مع النسمات الصباحية العليلة.
    يلمحك الجابي، فيفتح ذراعيه ويجلجل الصوت:
  • أستاذ منصور، يا ألف أهلاً وسهلاً.
    ينفتح فمك على مصراعيه مدهوشاً، أبو عباس يمطرك بقبل من حميم وغسّاق، ماذا يجري؟!!..
    حتى تلك اللحظة، لم تجد تفسيراً يشفي فضولك.
  • أين أنت يا أستاذ؟!!.. قسماً عظماً، برؤيتك ارتدت الروح إليّ .. مهران، يا مهران ( ينادي للآذن )، كأس شاي للأستاذ).
    تحاول التملص:
  • لقد شربت يا أبا عباس.
    يغلظ الأيمان:
  • مستحيل أن تخرج من هنا دون الضيافة.
    تستفسر منه:
  • ماذا يجري؟! ..
  • هو هو هو ( ممطوطة تخرج من بين شفتيه )، ويهز رأسه ذات اليمين وذات الشمال، ثم يتابع:
    ( أريد أن أسألك أستاذ: نحن لماذا توظفنا في هذه البلدية )؟. .
    سؤاله لم يكن لغزاً لتفكر في الإجابة:
  • طبعاً لتعيشوا.
    يقف مصعوقاً:
  • لا يا سيدي، رب العباد هو الكفيل، نحن هنا لخدمة المواطن بأقصى ما نملك ونستطيع، نحن جميعاً في خدمتكم.
    تمد يدك إلى جيبك، فيقسم بنظر ابنه الوحيد ( لو فعلتها يا أستاذي، سأقدم استقالتي فوراً ).
    يا ويلك إن لم تسلم على المحاسب، الذي ما إن يقع بصره عليك حتى يقوم بكل هيبته، عن مكتبه، ويستقبلك في باب غرفته مرحباً:
  • أستاذ منصور عندنا، .. مهران لِمَ لَمْ تخبرني؟!!.. سامحك الله يا بني..
    يمطرك بوابل من القبل، ويقرع الجرس، فيمط الآذن رأسه، ويلقي بأذنيه صاغياً لأوامر المحاسب:
  • عصير فواكه .. هات إبريقا كبيرا…
    ما تراه لا يكاد يصدق، فكم مرة صرخ في وجهك، ومنعك من الدخول إلى غرفته إلا بإذن خطي من رئيس البلدية.
  • معك حق يا أستاذ منصور، يدني فمه من أذنك ويهمس:
  • المعلم الجديد علمنا أموراً كثيرة كانت غائبة عنا، فقد قال لنا بالحرف الواحد:
  • نحن هنا لنخدم المواطنين. نحن رهن إشارتهم، نأخذ رواتب من الدولة لنؤدي واجبناتنا نحو المواطن.
    وأضاف بعد أن أخذ سحبة طويلة من ( سيكارته )،ونفثها في فضاء الغرفة:
  • لم يعد المواطن بحاجة لمراجعتنا.
    تصغي جيداً لوسوساته:
  • يكفي أن يتصل المواطن، أي مواطن لا على التعيين، ليخبرنا بالهاتف، ويفصح عن طلبه، ونحن نهرع إليه لنحل مشكلته.
  • ألهذه الدرجة يا أستاذ ” خميس “؟!!..
    يرسم ابتسامة واسعة على وجهه:
  • بل أكثر، لقد جاءتنا تعليمات بأن طلبات المواطنين مقدسة، ومجابة بدون أي تلكؤ.
  • أكاد لا أصدق..
  • لقد اتبعنا طريقة جديدة في المعاملات.
  • وكيف صارت؟!!..
    ازدرد لعابه، واستعان بسبابته:
  • أصبحنا، نحن الموظفين، نراجع المواطنين في بيوتهم، ندور عليهم، لنسألهم عن طلباتهم وحاجاتهم.
    تخيل، فنحن لا نداوم سوى ساعتين صباحاً في مكاتبنا، ثم ندور بعد ذلك على بيوت الناس، لنعرض خدماتنا لهم.
    تودعه بحرارة، وتملص من بين يديه مبهوتاً.
    يقبض الآذن على ذراعك، ليوصلك إلى رئيس البلدية، يقرع الباب مستأذناً:
  • أستاذ حمزة، معي مواطن يريد مقابلتك.
    ما إن سمع ” المعلم ” بأن مواطناً يريد مراجعته، حتى هب كالزوبعة وقفز إلى الباب:
  • أستاذ منصور، هذا أسعد يوم في حياتي، والله زارتنا الملائكة.
    يعانقك، وكأنك عائد، توّاً، من معركة ضروس لم ينجُ منها سواك، يقودك إلى كرسيه:
  • ماذا تشرب أستاذ؟!!.. سوس، تمرهندي؟!..
  • زهورات .. زهوارت أخف
  • ينادي للآذن:
  • هات زهورات بالعسل .. نحن خدم وحشم لجميع المواطنين يا أستاذ.
    تنذهل من تلك التصرفات التي لا يحتملها عقلك، ولأنه رئيس بلدية، فعلى ما يبدو، قد عرف ما يدور في رأسك:
  • لا تستغرب أستاذ، لقد تغيرنا كثيراً، جاءتنا تعليمات لاحترام المواطن، وخدمته بكل شفافية، وأظن أن المحاسب قد شرح لك كيفية التعامل مع المشاكل ميدانياً، وذلك بأن نذهب نحن للآخرين، ولا داع لأن يتكبد المواطن أي عناء لمراجعتنا.
    تثني عليه، فيسترسل:
  • فمثلاً، أنا أحمل الخاتم في جيبي، وأدور على المحال والبقاليات والمنطقة الصناعية ، وكل ذلك دون مقابل .. فهل هذا يرضيكم يا سيدي؟! .
    تضاعف له الثناء والشكر، فيبادرك:
  • والآن قل لي عن طلبك.. ولا تنس أن طلباتك أوامر..
    كلامه يشجعك:
  • أريد أن أقدم شكوى بحق المدينة الصناعية المتاخمة لحينا ، روائح يا لطيف، ضجيج لا يطاق، سخّام الدخان أزكم أنوفنا.
    يقاطعك وهو يبتسم:
  • هذه بسيطة يا أستاذ.. اعتبر أن المشكلة محلولة، غداً صباحاً ستغلق كافة المصانع.
    ترتسم الدهشة على وجهك:
  • أأنت جاد فعلاً؟!! ..
  • الله أكبر .. أنا مسؤول عن كلامي، ثم ألستَ مواطناً لك الحق في نوم هادئ دون منغصات تستفزه:
  • بهذه البساطة، مصانع تكلفت بمئات الملايين تغلقها بجرة قلم ؟!!..
  • جرة قلم .. أنت تستهزئ ؟!!.. بالحالات كلها، إن غداً لناظره قريب:
    تقف لتنصرف، وقد امتلأت بروح جديدة، ولون آخر للحياة التي ستعيشها اعتباراً من تلك اللحظة، لكن رئيس البلدية يعارض خروجك بتلك الطريقة غير اللائقة، يطلب سائقه ليوصلك إلى بيتك معززاً مكرماً وحين ترجوه، يغلق الباب، ويخيّرك.
  • أمران لا مفرّ من أحدهما، إما أن يوصلك السائق إلى البيت، أو ..
    يرتعش جسدك:
  • أو ماذا أستاذ؟!!..
    يفتح درج الطاولة، ويخرج مسدساً ويصوبه إلى رأسه:
  • أو ..
    ولأنك تعجز عن تفسير ما رأيت، فقد أطلقت ساقيك للريح ، وتركت السائق يلطم وجهه وينوح متأسفاً ويصرخ:
  • لا بارك الله بك أيها المواطن..
    الطلقة التي لعلعت في أرجاء المكان، أيقظتك من الحلم الغريب، وأعادتك للحياة من جديد.
الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s