رودي سليمان: وهاهي هويتي ولنعلن الثورة

زي بوست:

نصي الذي بلغ عامه الثاني

لم أولد وفي فمي ملعقة ذهب ولم أكن ابنة آغا القرية ذي الأراضي الكثيرة، وُلدت وبفمي ملعقة من الخشب منحوتة من غابة متروكة منذ دهر استطاع أبي حفها جيداً بخنجره المسنن كي لاتجرح أفواهنا أنا وأخوتي، كنا ستة بملعقة واحدة جلسنا حول صينية من القش عليها إناء من الألمنيوم تستطيع أمي استغلاله في الطهو على النار والتقديم به أيضاً.
علي أن أعترف أن الأمر كان صعباً ريثما انتظر دوري في اقتناء الملعقة ولأنني كنت البكر من الأولاد والوحيدة من البنات فكان علي أن أكون الأكثر قرباً من الأم الثانية تلك الحنونة المتغابية المسلوبة الحقوق العارفة بكل الأمور لذا تقمصت الدور كثيراً وحتى يومي هذا.

كبرنا كثيراً وحفرتنا الأيام حتى بات كل ولد منا غابة نبت فيها السرو والسنديان والزيتون والبلوط والجوز وأشجار السماق الحامض نحن الستة تبنتنا الحياة بخشبنا وأغصاننا الوارفة حتى احتكرت كل لحاءاتنا المسنودة لجذوع تائهة بين طعم الملعقة الوحيدة المشتركة بيننا وبين الملاعق التي ننحتها اليوم لغيرنا.

اليوم أنا الأم التي تنحت الملاعق لطفليها أرسم بين الحين والآخر أشكالاً أخرى لملاعق كثيرة لكثير من الأبناء صرت أماً لأخوتي لأصدقائي لصديقاتي لأحبتي لأمي وللكثير من الزهور والاشجار والأغاني والقصائد الذين لم أنجبهم فمشاركة الملاعق مع غيري هو إدمان دائم حتى ينتاب الشخص الذي أمامي حيرة ويجول في خاطره سؤالٌ واحد:

أهي حمقاء هذه الفتاة لهذا العطاء؟!! أم أن الأمومة أخذت من صداها دائماً؟! ولايدركون أن الغابة التي حفر منها أبي ملعقتنا الخشبية قد زارتنا حينها سراً لتأخذ بثأرها ولأنني كنت الأم الثانية الساهرة لتغطي الإخوة الخمسة صادفتها ومنعتها وعاهدتها أن أنجب من رحمي كل يوم شجرة أنحت منها قلباً صلباً وأقطع بنفسي أغصاني لكل القطعان المارة مني.

هكذا استطعت حماية أخوتي من ثأر الغابة وهكذا استطعت أن أصمّ عن صراخها الفظيع والذي إن فرّ من حلقها حزم أمتعة الموسيقا من الكون نحو اللانهاية.

أنا الفتاة الحمقاء التي تكسر أصابعها في العزف كل يوم كي يسمع لحنها رجل من الطرف الآخر من العالم فيرقص كل الذين بينهما على نغمة الحب.

أنا الفتاة اللامنتمية لشيء سوى صدى عهد قطعته مع الغابة ولحن عزفته للحب وأعلن استسلامي وهاهي هويتي ولنعلن الثورة.