عبد الغني حمادة: العودة إلى الوراء
زي بوست:
لم أقترف ذنبا مشينا أو غلطا كبيرا، أو تصرفا مخلا بالآداب العامة، كما فعل ذلك الرجل السبعيني المريض( بالسكري ). نعم لم أقترف ذنبا يجعل الآخرين يستاؤون مني بهذا الشكل الغريب!!.
شمس تشرين الثاني تتراقص كعروس في السماء، حاولت أن أمد يدي لأصافحها، أشمها، أحضنها، أعانقها، وأخبئ قليلا من دفئها للصقيع والزمهرير والبرد القادمين بعد أيام، لكن هيهات أن أطالها أو ألمس وجهها الصبوح!!.
كانت الحديقة مليئة بالباحثين عما يدفء عظامهم، رجال ونساء وصبايا وأطفال صغار يتأرجحون ويمورون كأيام الأعياد، سوريون وأتراك يستمتعون بأشعتها المصبوغة بالذهب.
كان أغلبهم ينظرون إلي وكأني أرتكب فاحشة دون ستر أو غطاء.
قرأت في عيون بعض السوريين المحملقة، وكأنها تقول :
- القراءة لا تطعم خبزا!!.
اقتربت امرأة قاربت الأربعين من العمر، أنهكت الغربة تقاطيع وجهها. فحفرت أخاديد طولانية وعرضانية خفيفة، ولونت ما تحت عينيها بسواد كالح يميل إلى الأزرق:
- ماذا تفعل يا عم؟.
- أفعل المنكر … ألا ترين؟.
أزعجتني كلمة يا عم، ودون استئذان جلست على الطرف الآخر من المقعد، التقطت أنفاسها:
- هل تعلم أني أول مرة منذ جئت إلى تركيا أرى سوريا يقرأ كتابا في حديقة!!…
- معك حق يا سيدتي، الناس هنا أرهقتهم أعباء الحياة، ومتطلبات الغربة الباهظة، وعوائق الظروف المعيشية…
- يلعن ( أبو الغربة )، ويلعن من هجرنا وغربنا.
- كان عندي مكتبة كبيرة، لكنها احترقت مع بيتي، هل تعلمين بأن هذه أول مرة أغامر بقراءة كتاب في الحديقة منذ مجيئي إلى هذه البلد؟!!… هزت رأسها، ثم نهضت بتثاقل متكئة على مسند المقعد الخشبي:
- سأتركك مستمتعا بالكتاب، لأتابع مع أولادي جمع الورق والكرتون للمدفأة…
- نعم، الشتاء لا يرحم الفقراء يا أختي.
مرتادو الحديقة من الأتراك كانوا ينظرون إلي بغرابة واستهجان، ولسان حالهم يقول:
- ( تركوا بلادهم، وهربوا، التجؤوا إلينا. أما كان أجدى لوطنهم لو بقوا ودافعوا عن أرضهم وأعراضهم؟!!.
كم هم جبناء!!…
رنين الجرس، في الصباح، أيقظني من استغراقي في أحلامي، ساعي البريد حمل إلي كتبا من صديقي الأديب المقيم في ( بورصا ) .
ياااااه منذ متى لم أفتح كتابا!!.
- ( ليتني جلبت معي بعض الكتب من سوريا )!!.
ملمس الورق أعادني إلى الوراء سنين، رائحته أرجعتني إلى حلب ومكتباتها، وإلى دار النشر… - آااااااه، تلك أيام خلت …
ماذا حل بدار النشر يا ترى؟. اشتقت لرائحة الحبر والغراء وألوان الورق والأغلفة، اشتقت لأصدقائي هناك، واشتقت لتناول القهوة معهم، اشتقت لرائحة حلب.
قبل أن أصل إلى الحديقة سألني ذلك التاجر المتخم بالدولارات:
- متى سنرجع إلى بلادنا؟.
فقلت له بلهجة جادة: - أظن أن الوقت لايزال بعيدا.
- أراك متشائما على غير عادتك أستاذ!!.
- الواقع يقول هذا. فالدول الكبرى لم تحقق مصالحها بعد، مازالوا في شد وجذب، وأخذ ورد.
- يعني إلى مزيد من الدماء؟.
هززت رأسي، وتابعت سيري إلى تلك الحديقة.
أزهر الحنين زنبقا وياسمينا من الحروف والكلمات التي كنت أقرؤها، وانتشرت بساتين من الشوق والحب وألوان الحياة، سالت دموع الفرح بعودتي للكتاب، شعرت بنشوة ضخت دماء جديدة في روحي. وأنا أقلب أوراق المجموعة القصصية بغبطة وفرح، شعرت بجناحين يحملاني إلى بلادنا القريبة البعيدة، إلى المراكز الثقافية في حلب، حيث المماحكات والمعارك اللسانية بين القاصين والشعراء وسيوف النقاد، مررت على بسطات الكتب المستعملة المعروضة للبيع بأسعار تشجيعية، ألقيت التحية على صاحب اللحية الفضية أمام مبنى البريد في ساحة سعد الله الجابري بحلب، الذي كنت أشتري من عنده الكثير من الكتب.
نهضت بحذر بعد أن توارت الشمس خجولة خلف الأشجار، مشيت على كتف نهر قويق الجاف إلا من بقايا رطوبة شتوية، تأبطت ذراعها لنعبر جسر المشاة الحديدي:
- أخاف السير على الفراغ …
- حتى وإن كنت معي؟!!.
- لا …. معك أتحدى كل شيء.
- هات يدك ….
كانت يدها حارة وناعمة، كقطعة حرير: - لا … لا … لم نتفق هكذا …
رائحة عطرها مازالت على الجسر الضيق، ومكان أصابعها على الشبك. أكاد أرى ابتسامتها عليه . - ياااااه كم كان خوفها جميلا!! خوف جعلها تلتصق بي، وتطوق خصري بذراعها، وتلقي برأسها على كتفي. مازلت أحس بحرارة جسدها يتغلغل في أوردتي، ويمنح الدفء لشراييني.
كنت شابا آنذاك، عندما كنا نهرب من المدرسة لنشاغب في الحديقة العامة. عدت أدراجي، أسدلت ستارة النافذة البعيدة. حبست دمعة وتابعت سيري إلى مركز هذه المدينة.
أذهلني العجوز الذي يرتدي معطفا عسكريا طويلا وقد اعتمر قبعة صوف عثمانية الطراز، وينتعل حذاء بساق طويلة، ثم تقدم بخطوات عسكرية منتظمة وهو يرنو إلى التمثال المنتصب وسط الساحة الكبيرة بنظرات ثابتة، خبط الأرض بقدمه، أدى تحية عسكرية مع بضعة كلمات لذلك التمثال الذي يحمل قبعته بيمناه، و( الطبنجة ) بيسراه.
تحلق بعض الموجودين حول العجوز المنشغل بأداء مراسم التحية، وعندما انتهى صفقوا له، ثم قبلوا يده وتعانقوا، حيوا علم بلدهم تركيا، والتقطوا الصور التذكارية، ثم تفرقوا.
وعلى الطرف الآخر من الساحة، ثمة مجموعة من الشباب السوريين يتلذذون بالنرجيلة، ويتمايلون على أنغام أغنية تذكرهم بآلام الوطن وجراحه!!…