جهاد الدين رمضان: جواز عتريس من فؤادة باطل *

جهاد الدين رمضان: جواز عتريس من فؤادة باطل *

زي بوست:

(أخي المواطن مارس حقك الدستوري بقول نعم للقائد)
(أيها السوري بادر بقول نعم لتجديد البيعة لقائد الوطن)
بمثل هذه العبارات كان المواطن السوري يمارس حقه في الاستفتاء على اختيار مرشح القيادة القطرية لحزب البعث العربي الوحيد، لا توجد انتخابات لاختيار رئيس من بين عدة مرشحين، و كأنما عملية الانتخاب تجاوزناها بمشاورات قيادة الحزب الحاكم، و لا أعلم فيما إذا كانت المشاورات مسموحة في قيادة الحزب، بل أقول هذا من باب الافتراض فقط في حياة فُرضَتْ علينا فرض و غصب.

حق السوري المحفوظ في الدستور يتمثل في بطاقة استفتاء عليها خيارين : مربع صغير بالأخضر مكتوب بجانبه نعم، و مربع ثاني بالأحمر مكتوب بجانبه لا، و في رأس الورقة يوجد سؤال محايد : هل توافق على اختيار السيد فلان رئيساً للجمهورية العربية السورية؟ و من الطبيعي أن يختار المواطن الوديع وضع إشارة على كلمة “نعم” ذات اللون الأخضر، و لا يقترب من مربع كلمة “لا” ذات اللون الأحمر الذي يوشي بالخطر، كأنه يقول للمواطن (لا تقترب، خطر الموت).

دعوات القيادة الحكيمة و المعطيات على الأرض، كلها تقول يجب على المواطن الوطني الغيور أن يقول نعم بكل سرور، و غير قول “نعم” غير مقبول، و إلا سيصبح مصير المواطن المشاكس مجهول، هذا إذا سنحت له الفرصة أن يقول لا.
ففي مراكز الاقتراع كل شيء مكشوف تحت رقابة رجال الأمن أو الحزب، بل أحياناً يتبرعون عن المواطن المذهول بوضع الإشارة على مربع كلمة نعم، و من باب التسامح يسمحون له بممارسة حقه الانتخابي عدة مرات، حدث هذا معي في أحد أعياد تجديد البيعة لقائد الوطن الأب، خلال عملي في الخطوط الحديدية السورية بعد عام ١٩٨٤، كنت مناوباً في مكتب الأمتعة بمحطة بغداد للقطارات بحلب، انتهت ورديتي في السابعة صباحاً و كان علي أن انتظر قدوم معتمد الرواتب في التاسعة لأقبض منه ما أستحق، فوجئت به يقول لي حين قدومه :

  • – لا أستطيع صرف مستحقاتك بدون أن تبرز لي إشعاراً بأنك مارست حقك الدستوري بقول نعم لسيادة الرئيس العتريس، إذهب و قل نعم و خلّهم يثقبون بطاقتك الشخصية كعلامة على تأديتك لواجبك الوطني، ستجدني هنا عندنا تعود يا مسعود.
  • – لكنني مارست حقي في الجامعة بالأمس، و لا يجوز للواحد أن يقترع أكثر من مرة واحدة كما تعلمت بمادة القانون الدستوري.
  • – اي دستور من خاطره و خاطرك، إذا ما كانت هويتك مثقوبة فحقيبتي مثقوبة و لن تجد فيها أي قرش، روح انتخب و ستجد حقيبتي مليئة بالفلوس.

  • أخذت حسبي لله و عليه توكلت، ذهبتُ إلى مركز الاقتراع في الطابق العلوي الفسيح، كان أحد رفاق الحزب مشرفاً على الصندوق، بيده لائحة بأسماء موظفي المحطة، أعطيته بطاقة الهوية الشخصية ليضع إشارة بجانب اسمي في القائمة، فعلَ هذا و ناولني دبوساً صغيراً، قال لي بفخر :
  • – ألا تريد أن تبصم بالدم؟
  • – نعم، و لكن بدون وخزة الدبوس، أخاف من انتقال عدوى من مريض غيري سبقني بالنكش و النخز!
  • – و لا يهمك يا ابني، عندي كحول طبي و قطن، و لأجلك سوف أعقم الدبوس قبل النخش.

  • لا حول ولا قوة الا بالله، ما هذا البلاء يا ربي، كيف سأتخلص منه؟ فكرت قليلاً و دعوت الله أن يلهمني طريق الخلاص من هذا المأزق اللعين، قلت لأمين الصندوق الرفيق البندوق :
  • – العفو يا رفيق، لقد ذهبت البارحة إلى الجامعة و مارست حقي في القول نعم، نعم شاهدت زميلي مغمى عليه بسبب نزف الدم من أصبعه، و على أثرها منعونا من استخدام الدبوس، قالوا لنا يكفي أن نبصم بالحبر الأحمر، و هكذا فعلنا بالأمس، ما رأيك بأن أخط بقلمي الأحمر بعض الحبر على ابهامي و أضع بصمتي بدلاً من الدم، أليس هذا أفضل من مخاطر الوخز بالدبوس؟
  • – يبدو أنك موسوس و جبان، هات قلمك “الباركر” و أفعل ما شئت.

  • أعطيته قلمي النفيس و تخلصت من الكوابيس، و عدت لأطالب بحقي من الفلوس بلا وخزة الدبوس، بل مع ثقب كبير في زاوية بطاقتي الشخصية، و جرح أكبر في كرامتي الشخصية .

بالأمس شاهدت فيلماً مصرياً قديماً، اجتمع الإبداع فيه من كل طرف: المؤلف و كاتب الحوار و الأغاني و رسوم المقدمة و الألحان و الإنتاج و الاخراج و طاقم

التمثيل و الكادر التقني الفني و غير ذلك، كل هذا في فيلم “شيء من الخوف” المستمد من رواية الأديب الكبير ثروت أباظة، مع أشعار عبد الرحمن الأبنودي، ذكرني الفيلم بمسيرة زواج الرئيس (شخصية عتريس في الفيلم) من سوريا (شخصية فؤادة في الفيلم) كيف تمّ بعقد باطل تم تزويره بالكذب، في العاشر من حزيران عام ٢٠٠٠ انقطع بث التلفزيون العربي السوري بعد العصر، خرج من الشاشة وجه المذيع الحزين “مروان شيخو” معلنا وفاة الرئيس السابق الأب مع دموع لا أعرف كيف يستدعيها بهذه الغزارة و السهولة، و بكل سهولة نقلنا بعدها مباشرة إلى جلسة التزوير في مجلس الشعب، تم فيها تغيير الدستور و تعديله ليناسب سن الرئيس الوريث الابن، في خمسة عشر دقيقة و موافقة كل العضوات و الأعضاء شهود الزور في مجلس الأنس و السرور، بعدها توزع إرسال التلفزيون بين تلاوة القرآن و مشاهد التشييع و الدفن، ثم مسيرات الحزن إلى الضريح، حيث رقد جسد الفقيد مطمئناً على سير مراسم تزويج الأبن “العتريس” من “فؤادة” عروسة الغفلة، سارت المراسم كما خُطّطَ لها على الأرض، منعوا أصحاب المهن الحرة و المحلات و المصانع من الدوام لمدة ثلاثة أيام، و كأن البلاد في حالة إضراب لولا السماح لأصحاب الأفران و محلات المواد الغذائية بالعمل، و بالمقابل أجبروا عمال القطاع العام بالدوام رغم توقف الأعمال في كل مفاصل الدولة، يجبرون العمال و الموظفين على الخروج بمسيرات الحزن على فقيد الوطن في الشوارع الرئيسية و الساحات في المدن، و يتم اقتيادهم بالكره في زيارات دورية إلى مسقط رأس الفقيد الساقط في حفرة القبر، بينما يبارك المجتمع الدولي هذا الانتقال السلمي للسلطة في دولة الخوف.

و كما حدث في الفيلم، خرجت جماهير الشعب السوري في ربيع عام ٢٠١١ تصرخ: (جواز عتريس من فؤادة باطل)، و دفعنا الثمن و مازلنا ندفع المزيد من الدم، ينتهي الفيلم بهروب بطانة الطاغية عتريس من القصر بعد حبسه فيه لوحده، و هجوم أهل الكَفر “الدهاشنة” على قصر المستبد بالمشاعل مع الصراخ بصوت واحد، وحّده الغضب و انتصر على الخوف، يرمون المشاعل داخل قصر عتريس و يهتفون :
(جواز عتريس من فؤادة باطل)
أرجو من الله أن لا تطول رؤيتي لاحتراق طاغية القصر.

…………………………………………………………………………………………
جهاد الدين رمضان
في فيينا ٣٠ تشرين الثاني / نوفمبر ٢٠١٩
*النص من مذكراتي و أحداث اليوم، و العنوان عبارة مقتبسة من الفيلم المذكور في المتن، و البصمة بالدم نوع من النفاق ساد في البلاد بعد القضاء على حركة الأخوان المسلمين في مطلع ثمانينيات القرن العشرين

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s