د. محمد لطفي: محطة أبو علي
زي بوست:
(بمناسبة حظر روسيا من المشاركة في النشاطات الرياضية الكبرى بسبب الفساد الرياضي مؤخراً، أعيد نشر قصتي القصيرة)
محطة أبو علي
بالأمس كنت جالساً في القطار صحبة أحد أقربائي، عائدين من رحلة عمل سريعة إلى برلين.
أمامنا، كانت تجلس سيدة شابة في أوسط ثلاثينيات عمرها، مرافقي كان يتكلم بصوت مرتفع قليلاً، وبنبرة تنم عن موضوع الانتقاد الذي كنا بصدده.
فجأة، لمحت حركات عيني السيدة تتسارعان لتعلنا بعض ما كانت تحاول خوارزميات مخها تفسيره من حوارنا السوري الحلبي، الصاخب نوعاً ما أنا وصاحبي.
أحببت أن أهدئ بعضاً من روع عينيّ شريكة جلستنا، فبادرتها بالالمانية دونما مقدمات:
الإصغاء للغة أجنبية يعطي غالباً شعوراً بالغرابة والدهشة، أليس كذلك؟
تفاجأت السيدة الشابة بسؤالي وأخذتها البداهة، فتنبهت لما كان قد صدر من ايماءات استغراب من عينيها الاثنتين، فضحت بها ما كان يجول في خاطرها تجاه ما كانت تسمع.
ردت بابتسامة فيها انطلاقة، وتنفس صعداء بآن معاً، ثم عقبت:
في الحقيقة إنه الفضول فقط، لا غرابة مطلقاً في الأمر، ثم استطردت:
أنا أصلاً أتحدث على الغالب لغة غريبة في هذا البلد.
وأي لغة تتحدثين إذاً، سألت مستطردا، فجاوبت:
الكرواتية!
جميل، كان تعقيبي يحاول جهده أن يكون مهذباً، رغم الكم الهائل من الذكريات الغاضبة والمريرة التي تسجلت في تلافيف دماغي، عما فعله الكروات من مجازر إبان حرب استقلال البوسنة.
أردت تنحية السياسة جانباً، فتابعت مجاملتي قائلاً:
منتخب بلادكم يقدم مستوى كروياً مميزاً في المونديال، الكروات يتميزون مجدداً.
نعم نعم، عندك حق، جاوبت بحبور سيطر على معظم ملامح وجهها، ثم أردفت:
هم يذكروننا الآن بذكريات المنتخب الوطني إبان عهد (سوكر) ورفاقه، هل سمعت عن ذلك المنتخب؟
بالطبع، سمعت وشاهدت وتابعت أخباره وجميع مبارياته خلال بطولة العالم في فرنسا قبل عشرين عاماً، لقد هزموا هولندا في نصف النهائي، لقد لقبناهم ببرازيل أوربا، و (سوكر) حصل بدوره على الحذاء الذهبي، كانوا حقاً رائعين.
أدهشها كم المعلومات التي أوردتها عن منتخب لبلادها كان متألقاً قبل عشرين عاماً، تألق شيء ما بدوره في قسمات وجهها، ماء عينيها ضوى، وتراقصت صواري ثغرها على الجانبين، فانحسر مبسمها عن صف أسنانها البيض الكبيرة التي تؤكد أوربية أصولها العرقية.
شكرتني كثيراً عن حديثي الإيجابي جداً حسب قولها بحق منتخب بلادها، فهذا يزيد سعادتها كثيراً كما أضافت هي.
أردت بدوري العودة للحاضر، وإغلاق حديث الذكريات، فسألتها عما تتوقعه لمباراة منتخبها القادمة أمام الروس.
هنا، توقفت السيدة عن الابتسام، قالت وبتسرع رأياً كأنه كان حاضراً مسبقاً في سجيتها:
الروس سيغلبون.
ولكن فريقكم أقدر وأكثر خبرة وحنكة من الفريق الروسي، فلم تتوقعين الهزيمة لهم، تساءلت هنا باستغراب واستنكار؟!
نظرت إلي بجدية وتركيز، حاولت عيناها إيصال رسالة ما، قد تكون الكلمات تعجز عن إيصالها في هذه اللحظة من الزمن، ثم أرفقت نظرتها بحركة يمسح فيها باطن إبهام يدها اليمنى باطن سبابتها المطوية على بعضها جزئياً كنضوة حصان، ونطقت بعدها شبه جملة واحدة فقط:
إنه السيد پوتين!
لملمت أغراضها، ونهضت من مقعدها المقابل لنا كما وكأنها لبوة مرضع شاردة، تذكرت فجأةً جراءها عن بعد.
ودعتنا بلطافة وإيجاز، ثم غادرت القطار عند المحطة التالية.
تابعتها ومرافقي إلى أن ابتلعها نفق الدرج الهارب إلى جوف المحطة الصغيرة.
التفت إلي صاحبي الذي كان يتابع حواري معها بشكل مماثل لمتابعتها هي لحواره هو معي بداية الرحلة، وسألني مستفسراً ومستغرباً:
لم نزلت فجأةً؟ ماذا قلت لها، كيف أغضبتها؟
لم أستطع أن أجد له جواباً يرد على كل تساؤلاته، فارتجلت:
اسأل أبو علي.
أي (أبو علي)؟!
ما غيره، أبو علي پوتين!
يا حبيبي! هي تعرف أبو علي پوتين أيضا”؟!
كانت آخر تعليقات مرافقي الطيب، ثم استدار مواجهاً النافذه مجدداً لنتابع معاً هو وأنا اختفاء معالم محطة أخرى في مسيرة رحلتنا.