عبد الغني حمادة: احتضار

عبد الغني حمادة: احتضار

زي بوست:

ثمة طفل مشاغب يرسم بأصابعه المرتجفة لوحة لشمس تكسر شوكة الصقيع الذي جاء باكرا هذه السنة، صقيع جاف يلفح الوجوه بسياط تفتت العظام، تضعضع المفاصل، وتجمد الدماء في العروق، صقيع دك معاقل الدفء، استباح المطارح، وزلزل اﻷرواح اﻵمنة.

وثمة رجل مستلق يمسح المكان بنظرات قلقة، تتراقص الأحلام في رأسه، يحاول أن يستجمع أفكاره الهاربة، يدخن بشراهة تبغا رديئا، يجوس أرجاء الغرفة بصمت.

هيكل مذياع قديم لفظ أحشاءه فوق رف خشبي عتيق استهلك زمانه، مزق كتاب عبثت به أيد كثيرة. فضاع عنوانه، وتجعدت زواياه، أهمل في زحمة هموم أخرى أكثر ضرورة من القراءة والكتابة. فاصفرت أوراقه، وامحت حروفه.

امرأة مشغولة بكي الثياب، ساهمة في أمور شتى، تقول بلا مبالاة:
– يلزمنا مكواة جديدة.
يتابع الرجل الشارد تكات الساعة المعلقة على صدر البيت، تعالج صمتا مقيتا.

يقترب منه قط عجوز ، قلعت عينه في لحظة ثأر، بطلها صاحب حمامات، ضبطه متلبسا في الجرم المشهود. فأطلق عليه رصاصة من بندقية كادت أن ترديه قتيلا ، إﻻ أنها اكتفت بعين، وأبقت له واحدة يتلمس بها سبل العيش.

يحس الرجل بنصال تذبحه من الوريد إلى الوريد وهو يراقب أجسادا تتلفع “ببطانيات” ﻻكت اﻷيام خيوطها، مضغت زهوة عمرها، لكنها تقي اﻷجساد صقيعا ﻻ يرحم الفقراء، يلوذون ببعضهم ، يتهامسون، تتجرأ الصغيرة:
– أنا بردانة بابا …. نريد مدفأة.
تنهرها أختها الكبرى:
– اسكتي .. مازال الوقت باكرا على المدفأة.
تلتفت اﻷم ، وتقول:
– وما فائدة المدفأة بدون مازوت؟!

الرجل الصامت المستغرق في تأملاته وآﻻمه، يبحث عن شيء يتحدى به الصقيع هذه السنة، الذي حل قبل موعد.
ﻻزال الطفل الصغير يرسم شمسا على باب الغرفة.

يحاول الرجل أن يخرج من رداء الصمت، يوزع بؤسه على وجوه تجمدت نظراتها، ينصت إلى كلب يعالج السكون والصقيع بنباح واهن متقطع، يعلو تارة، ﻻ يلبث أن يهدأ ويخمد. لعله أقعى في وكر لم يجتحه نخر البرد بسيوفه الحادة.

الضوء المتدلي من سقف الغرفة يتأرجح، ينوس. فتنقبض القلوب، ويتوهج. فتشرق الوجوه.
ويسترسل النبض، وتتضخم الأحلام، وتشعشع الأمنيات، وتأتلق اﻵمال بغد أفضل.

الخزانة الوحيدة القابعة في الزاوية، تدافع عن نفسها ضد اﻻهتراء، وقد تبعثرت فيها أشلاء دمية، تتكئ بساقها على مكحلة لم تستعمل منذ ولدت كبرى البنات ، وعلى الرف اﻷوسط اصطفت فناجين تثلمت شفاهها، تهشمت آذان بعضها، ولبسها الغبار.

على الطبقة السفلى انتصبت طاسة نحاسية عليها آيات قرآنية، صدئ قعرها، واسودت حوافها، لم تستعمل أبدا، وبقيت ذكرى غالية من الديار المقدسة. فوق الخزانة بقايا قنديل قديم ، مطوق بخرزات زرقاء، كلح لونها مع مرور اﻷيام.

يحاول الرجل المسترخي أن يتذكر، حين كان شابا يافعا يمتطي صهوة أحلامه، أراد حينذاك أن يتعلم الرقص، ليلفت نظر فتاة يهواها. أغلق الباب، وقف أمام المرآة، أغمض جفونه، رفع يديه في الهواء، خبط قدمه على اﻷرض، فتح عينيه، فوجئ بشاب ينظر إليه مدهوشا، على وجهه ابتسامة سخرية، مالبث أن قهقه ضاحكا. حاول أن يسكته، استجمع قبضته. فتناثرت شظايا الزجاج. حطم الصورة، وبقيت قهقهته الساخرة ترن في أذنيه، تبعثرت نثارات من الدم في أرض الغرفة المقفلة.

فكر الرجل المستسلم لخيالاته.
هل يعيد تجربة الرقص؟! ولمن يرقص؟؟ ليلفت نظر من؟! أيستجيب الصقيع لحركات يديه في الهواء؟!
استجمع ما بقي لديه من جرأة، خرج إلى العراء، شمخ بقامته تحت قبة الصقيع، رفع ذراعيه، تحركت أقدامه، ارتفعت، أحسها معلقة في الفراغ، تثلجت مفاصله، تحجرت الدموع في عينيه، توقفت النجوم المتوهجة عن الدوران، سكت الكلب عن النباح، اهتزت الأجساد المتكورة، أطفأت المرأة المصباح المعلق في سقف الغرفة، أجلت طلب المكواة الجديدة. وﻻزال الصقيع يرسل عسسه إلى كل الزوايا.

ولكن ثمة أغنية شجية، تجيش في صدر الرجل، الذي توقف عن الرقص، جفت كلماتها، خبا لحنها على شفتيه الذاويتين، وسال دم مثلج من فم رجل يحتضر تحت الصقيع.
أما الولد الصغير فلم ينته بعد من لوحته الحزينة….

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s