محمد أمير ناشر النعم: الحب الأول والكتابة الأولى
زي بوست:
غدوت كاتباً يوم أمسكتُ بالقلم، وأنا في الصف الخامس الابتدائي لأخط أول رسالة حب وإعجاب بإحدى طالبات الصف السادس من مدرستنا نفسها.
رأيتها أول مرة يوم وقفت أمام باب صفنا، بعد أن تأخر أستاذنا عن حضور الدرس، منبّهة إيانا ألا نخرج من الصف، ولا عجب في أن تأمر وتنهى، فقد كانت من لجنة الانضباط المدرسية؛ وقالت يومها بالحرف الواحد: “ما حدا يطلع لبرَّا”.
وياللهول !! لقد رنّت في أذني لثغة في حرف الراء لم أسمع أجمل منها طوال حياتي الممتدة على مدار أحد عشر عاماً. في اليوم نفسه، وبينما كانت العائلة متحلقة حول صينية الغداء، وجدتني معرّضاً لسؤال أمي عدة مرّات: “هيه أين أنت ؟ بماذا تفكّر” ؟ كما أنها لاحظت، بالإضافة إلى شرودي، أنني كنتُ أتمتم وأغمغم بين الفينة والأخرى، لكنها لم تتبيّن ولو ربع حروف تمتمتي تلك، في حين أنني كنتُ، وبجلاء، أعرف بأنني أردد ذلك اللحن الموسيقي الجميل: “ما حدا يطلع لبغَّا””؛ محاولاً أن ألتقط نفس ذبذبة لثغة الراء الآسرة.
في المساء، ومع تطوّر الحالة اكتشفت أنني لم أكن أترنم بعذوبة الصوت، وبجمال اللثغة فحسب، بل وأغمض عينيّ نصف إغماضة لأستعيد طلعة ذلك الوجه الجميل المتناسق، المزدان بعينين لوزيتين هما للصغر أقرب منها للكبر. وبالآلية الطبيعية لعشق يندلع فجأة في كيان الإنسان، وككل العاشقين المولّهين الذين انطلقت شرارة عشقهم من سبب لا أستطيع أن أصفه، ولا أعرف ما هو، غدوتُ محاصراً بصورة تلك الجميلة التي بتُ أراها في كل شيء: في دفتري وكتابي، في واجهة محل زجاجية، على شاشة التلفاز، في قبة السماء، على السبورة.
في الصف، كنّا نقف لأستاذنا بإجلال واحترام، ثم نجلس محدثين جلبة سريعة الاندمال، وكنتُ أسمع صوته ذي النبرة العالية قوياً حازماً، غير أنه وبقدرة قادر، وخلال دقيقتين أو ثلاث، كان يبدأ بالخفوت والتلاشي ليحلّ محله صوت آخر ملائكي يقول: “ما حدا يطلع لبغَّا”، وكان همس حرف الراء الذي لا يُكرر بل يخرج مطعَّماً بشيء من حرف آخر ينساب إلى أذني، ويعبر إلى مجرى دمي محدثاً خدراً شاملاً في كلّي، وهذا ما غيّر مجرى حياتي أيضاً، وفوّت عليّ كلّ احتمال في أن أغدو مهندساً أو عالم رياضيات في المستقبل، فضعفي في الحساب والرياضيات ابتدأ منذ تلك الأيام. فقد كنتُ أسمع في درس الرياضيات كلمات من قبيل: الجذر التربيعي، والجذر التكعيبي، والبسط، والمقام، دون أن أفهم كلمة واحدة مما يُقال، لأنّ ذهني لم يكن مستعداً ولا لسنتيمتر واحد من التجريد. فإن قال الأستاذ: واحد. كان الواحد هي، وإن قال: اثنان. كان الاثنان هي وأنا، وإن قال: ثلاثة. كانت الثلاثة هي وأنا وطفلنا الصغير. وهكذا دواليك، على أنّ الأمر لم يقف عند حدّ الحساب والرياضيات، ولكن تعدّاه إلى الإملاء أيضاً، فمن سوء حظي أنّ منهاجنا الكريم في مادة الإملاء كان يضمّ كتابة الهمزات في حالاتها كلها. والنتيجة أنني إلى الآن أخطئ في كتابة الهمزة. وهكذا بقيت على مدار فصل دراسي كامل مولّهاً مدلّهاً مطرّحاً، أتابع رفّات رموشها، وأذوب وجداً عندما تسوّي غرّتها بيدها، وأتمنى أن أغدو عقدة (فولارها) التي تُحل تلقائياً في اليوم كذا مرة، ثم تُعقد بتلك الأصابع الحريرية الصغيرة، وكنتُ أسافر معها في بداية كل درس إلى بلد ما، وأقضي معها أحلى الأوقات إلى درجة أن سعادتي كانت تصل إلى نقي عظامي، وما كان يعيدني من رحلاتي تلك إلا صوت الجرس المؤذن بانتهاء الدرس والرحلة معاً، ولكن لا بأس فلتنتهِ الرحلة ما دمتُ سأراها بعد هنيهة طوال فترة الفرصة في باحة المدرسة مع رفيقاتها تنطّ معهنّ على الحبل، أو تلعب لعبة التخليص.
أوشك الفصل الدراسي على الانصرام دون أن أتكلم معها أو حتى أن أعرف اسمها أو عنوان بيتها، وكيف أستطيع ذلك وقد غدوت مشلول الإرادة والتفكير والعفرتة !! حاولت أن أستنصح أحد أصدقائي فما استطعتُ، وما وجدت منهم مَنْ يكون أهلاً لسري أو محلاً لنجواي. وأخيراً قررت أن أتابعها بعد الانصراف إلى بيتها فلم أؤجّل عمل اليوم إلى الغد. كان بيتها بعكس اتجاه بيتنا، وأبعد عن المدرسة منه، لكنني تابعت وتابعت، ووجدتُ من نفسي أخيراً الجرأة لأكلمها..
اقتربتُ منها قائلاً: “مرحباً يا حلو”!!!.
فما كان منها إلا أن أجابت بعد أن زمّت عينيها متفرّسة في وجهي: “بعِّدْ عني”.
وبالفعل فقد ابتعدتُ على اعتبار أنّ المحب لمن يحب مطيع، وعدتُ أدراجي إلى البيت، وأنا أتلمّظ من فرحي وسروري، فقد باتت تعرفني، وتعرف أني بها معجبُ. ربما أكون قد فكّرتُ في ذلك اليوم أنّ التواصل الكلامي معها صعب قليلاً لذا فقد يمّمتُ شطر التواصل الكتابي، وكانت المرة الأولى التي أكتب فيها شيئاً خارج الوظيفة المدرسية، وشرعتُ متنهداً في تدشين أول رسالة أخطها في تاريخي، ومفتتحاً رحلتي في الكتابة.
في اليوم التالي، وبعد انتهاء الدوام المدرسي، كنتُ خلفها، كما في اليوم السابق، إذ من عادتي أن أطرق الحديد وهو حامٍ، غير أني لم أكلّمها هذه المرة، بل اكتفيتُ بأن مددت لها يدي، وفيها المكتوب الذي ضمّ لاهب توقي واشتياقي. لن أدّعي أنها أخذت المكتوب، ولن ألفِّق ما لم يحدث، بل سأقول ولو على حساب كبريائي، إنها أبتْ أخذه، وصاحت في وجهي: “إن ضايقتني مرة أخرى فسأخبر بابا”. فنكصت على عقبي كاسف الوجه والبال، متخاذل الأعضاء.
عاندتُ شهراً كاملاً وقفوته بشهر ثان، وحاولت محاولتين أخريين باءتا بالإخفاق، وفي أثناء ذلك غدت كل أغنية أسمعها تنكأ جراح قلبي بدءاً من (بتلوموني ليه) لعبد الحليم، وانتهاءاً بـ (ركبنا على الحصان) لفهد بلاّن! واخيرا علمت أنه لا مكان لحبي في قلبها، وعذرتها قائلاً: لعلها تحب رجلاً آخر.
غدت أيامي بئيسة كابية، تفتقر إلى الحماسة والوجد والهوى الغلاّب، فصرت أروح إلى المدرسة وأعود منها كبائع يفتقر إلى الأمل يدخل الحافلة من أحد بابيها ويخرج من الآخر، لكن الرؤوف الرحيم لم يتركني غرضاً للأحزان وعرضةً للأوصاب، إذ لم تمضِ بعدئذ أيام قلائل حتى عقدتُ صداقة مع طالب من صفي لم أتوقع في يوم من الأيام أن أعقدها معه، فقد كنّا ننتمي إلى جنسين أدبيين مختلفين كل الاختلاف، ومع أنه كان يكبرني بسنتين فقد كان أقصر مني بأربعة أو خمسة أصابع، وكانت عيناه رماديتين أكثر منهما زرقاوين، وكان يشع خشونة وسوقية، أما خياله فكان أسوأ شيء فيه، ذلك أنه كان يفتقر إلى الفنتازيا، ربما لأنه كان يربي الأرانب على سطح منزله. كان متورم الشعور، وكانت كفاه ثخينتين، وساعداه قصيرين وغليظين ومتينين. أخبرني أنه يذبح الأرنب بأسنانه، ويسلخ جلده، ويقدمه لأمه حتى تطبخه لهم. وبقدرة قادر غدونا صديقين حميمين تكذيباً لقول الشاعر: والجنس يألفه الجنس، وما لبث أن انضم إلينا صديق ثالث اسمه لؤي نجار، فكوّنا بذلك الحد الأدنى لشلة من الزعران والسرسرية، وفيما كنتُ أتابع مسلسل عبّاس محمود العقاد، وأعد نفسي لكي أكون أديباً عاشقاً وكاتباً ملهماً متيماً وجدتني بعد هذه الصداقة وقد أصبتُ بحكة الهروب من المدرسة، وبنفور مطلق من الكتب، لا سيما كتبي المفضلة، كمجلة سامر وسعد وأسامة، وألغاز الشياطين 13، وهكذا بدأنا نفرُّ من المدرسة الجاثمة على طرف من أطراف المدينة لنوغل في كروم الفستق والزيتون اللانهائية، ولنبدأ مغامراتنا برحلات اصطياد الحمير، ومن ثمّ ركوبها والتبختر فوقها. وللأمانة التاريخية أقول: إنه لم يكن سوى حمار واحد شارد لا صاحب له، يتكرر اصطياده بتكرار رحلات صيدنا تلك، وربما اجتمع على ذلك الحمار أكثر من شلة تريد كل واحدة منها أن تستأثر به لوحدها، وعندها يبدأ طقس استعراض القوة، فشلة تسب وتشتم وتلعن وتكفر، وأخرى يتقاتل أفرادها فيما بينهم حتى يرى الآخرون مهاراتهم القتالية وما انطوت عليه من أحدث أساليب الجودو والكاراتيه، وثالثة تبرز معداتها القتالية وتلوّح بها في تيه وعجب من (شبرية) و(مقلاع) و(نقيفة)، لكن وبما أننا شعب يتمتع بحس سياسي عالٍ فإننا سرعان ما كنا نتفق على ركوب ذلك الحمار بالدور، فنتناوب عليه، وقد ارتسمت على وجوهنا ابتسامات الرضا والسعادة، وكنّا نحدِّد مسافة الركوب ما بين هذه الحجرة وتلك، أو ما بين هاتيك الشجرة وتلك على أن لا تتجاوز المسافة المئة متر ذهاباً وإياباً، ولقد كنّا، نحن صائدي الحمير الأشاوس، آخر شاهد من أبناء المدينة على هذه الأشجار وهاتيك الكروم، ذلك أنه في السنة التالية جرفتها آلات ضخمة لصالح مشروع مدينة رياضية كبيرة جداً، وما زال يستمر البناء فيها منذ تلك الأيام وحتى هذه اللحظة.
أقول بصدق: لقد أمدتني تلك الصداقة بكثير من العنفوان والشراسة، وضخت في عروقي حب المغامرة، وركوب الأهوال والحمير، والولع بما يثير الاشمئزاز، ولا سيما بعد أن ذقنا حلاوة اللعب على سكة القطار، ورشق (الفركونات) بالحجارة وما تيسَّر من مؤذيات، وكان اكتشاف سكة القطار اكتشافاً لا يضاهيه اكتشاف، وقد صيّرنا مصنّعي سيوف ومناشير، ولم تكن تكلّفنا هذه الصناعة إلا الحصول على المسامير والبراغي، ووضعها على السكة، حتى إذا ما داست عجلة القطار عليها تحوّل المسمار إلى سيف، سيف صغير طبعاً، والبرغي إلى منشار، منشار صغير كما لا يخفى. وكم كانت فرحتنا غامرة يوم سرنا بمحاذاة السكة، وكنّا يومها سبعة، لا يا ربي ستة، وابتعدنا عن المدينة مسيرة ساعتين على ما أظن حيث استوقفتنا بحيرة قرب السكة، وكنت أوّل من نبّه إلى وجودها زاعقاً: هيه…. يا شباب… يا شباب… ها قد وصلنا إلى البحر المحيط.. هجوم.. كان صديقي ذو العينين الرماديتين أوّل الواصلين إلى الشاطئ، وأول الخالعين ثيابهم، وها هو لباسه الداخلي بلونه الكحلي يلوح أمام ناظري كأنني أراه للحظتي هذه ولا تفصلني عنه كل تلك السنوات، وكان هو ذاته أيضاً أول القافزين إلى الماء. يومها ارتطم وجهه بالأرض، ودخل الوَحَل إلى أنفه وفمه، لأن بحرنا لم يكن سوى مستنقع لا يتجاوز عمقه النصف متر من أوله إلى منتهاه، وخلال دقيقة أو دقيقتين كنّا جميعاً ما بين غائص في قاموس هذا البحر أو عائم على ثبجه، وكم كانت دهشتي المشربة بالفرح كبيرة عندما شاهدت دودة حمراء ترقص وتتلوى على صدر صديقي ذي العينين الرماديتين، ولما رآها علته ابتسامة تجاوزت أذنيه، ثم حلّق سباّبته مع إبهامه، وضربها بالسبابة فطارت لتستقر في الماء مرة أخرى، وأخذت أيضاً أتفحص جسمي علني أجد دودة أيضا، فلم أكذِّب خبراً، ووجدت واحدة بنّية على عضدي، لكنني لم أضربها بسبّابتي بل انسبتُ في الماء فعادت من حيث أتت، وفعلاً كان ذلك البحر مليئاً بالديدان والضفادع التي كنّا نسمع صوتها ولا نرى شخوصها، وما ذاك إلا بسبب خوضنا المتعسف في الماء الذي أحاله من صاف شفاف إلى داكن قاتم…
نعم… بسبب تلك الرسالة التي كتبتها لحبيبتي أحببت الكتابة وخضت غمارها كما خضنا غمار ذلك البحر المحيط.