عبد القادر حمود: لحظة من فضلكم.. سنزور قرية الركايا
زي بوست:
.***
مع محبتي لأهلها جميعاً، ولابنها البار الصديق الشاعر (د. عبد الرزاق درباس)..
***
ستتجه من مدينة (معرة النعمان) جنوباً، وبعد مسافة ستنعطف غرباً باتجاه بلدة (حيش) ثم (كفرسجنة)، وبعد أن تفارق آخر منزل من البلدة الأخيرة تصبح على مرتفع ويمتد أمامك باتجاه الجنوب الغربي منحدر لطيف…
هنا… في هذه النقطة بالذات يجب عليك الوقوف قليلاً أو لزمن أنت أولى بتقديره، ستكون أمامك (على مرمى البصر) قرية فاتنة تحتضنها التلال كشامة في كفِّ حسناء.. إنها (الركايا) القرية الوادعة التي إليها تتجه قلوبنا والأبصار…
لقد حملني إليها قبل أكثر من ثلاثة عقود من الزمن صديق برتبة أخ كريم، إنه الشاعر الأديب (د. عبد الرزاق درباس)، وكان يومي الأول فيها بداية، ولا أظنُّ أن لتلك البداية نهاية مهما يكن..
لقد أصبح الجميع هناك أحبتي وأصدقائي، بعضهم مازال في مكان ما من هذه الأرض بعد أن عصفت بنا رياح السموم، وبعضهم الآخر تركني أنتظر في مكاني طالباً لروحه الرحمة سائلاً الله أن يسكنه فسيح جناته…
وتتوارد الصور..
صور الأمس مزهرة خضراء يفوح منها الأمل…
وصور اليوم قاتمة، حزينة يفيض من حوافها الألم…
وأغمض عيني لأتذكر آخر صلاة لي في جامعها العمري، آخر مرة خرجت إلى كرومها وقطفت من عنبها الذي لا مثيل له، آخر مرة تبادلنا أنا والمرحوم نايف (الشقيق الأكبر لشاعرنا عبد الرزاق) نكاتنا وأحاديثنا ذات المذاق الخاص، ولعلي أذكر فيما أذكر آخر مرة زرت فيها قرية الركايا ولعلها كانت أقصر زيارة من حيث الوقت وأطولها من حيث الأثر والذكريات (فمن كان يدري أنها ستكون الزيارة الأخيرة حتى الآن).. لقد وصلت إليها قبيل الفجر مع صديقي الشاعر القادم من دولة الإمارات، وكان ثمة عطش لا بأس به رافقني على مدى الطريق من حلب حيث كنت أقيم إلى قرية (الركايا) حين أبى صديقي العزيز إلا أن نتوجه إلى قريته في ذلك الوقت المتأخر من الليل.. لقد طلبتُ الماء فور وصولي، وشربت من ماء الركايا حتى ارتويت، وخطر ببالي ما ينسب لأبي العلاء المعري حين شرب من ماء المعرة وهو ببغداد فقال: (الله… هذا ماؤها فكيف ناسها وهواؤها)، ولقد قلت متعمداً الدعابة: (يا أخي، مستحيل أن يكون هذا الخبر صحيحاً عن المعري، فأنا لم أجد فرقاً بين مائكم وماء حلب…) وضحكنا ربما إحدى أبدع ضحكاتنا، لا أستطيع أن أذكر أسماء من كانوا هناك… سيخنقني الدمع فبعضهم ليس الآن معنا.. لكن سأتذكر وأذكر أن لا فرق بين ماء (الركايا) قريتي التي أحببتها وأحببت أهلها في جنوب المعرة، وماء (حتان) قريتي التي ولدت فيها وأويت إليها في أيام الحرب القاسية تلك القرية التي تقع في أقصى شمال محافظة إدلب، وبين موارد أخرى عشقناها معاً (أنا وصديقي عبد) في إدلب المدينة أو في حلب أو في أماكن عديدة هنا وهناك…
ولكن صورة واحدة لا أستطيع أن أكتب عنها أكثر ما أكتبه الآن، إنها صورة دار شاعرنا الغالي عبد الرزاق التي كانت بالفعل عاصمة القرية الجميلة لكنها الآن كحال قلوب الملايين من أبناء بلدي… دمرها البغي وكشّر في وجهها جلاد الطفولة من أشعر بالقرف إن ذكرت اسمه، وما زالت صور الدمار وحدها تتوارد حتى اللحظة، ومازال الدم والغبار، ونسأل الله فرجاً قريباً إنه على كل شيء قدير…
فإلى (الركايا) قرية الأمل..
إلى محبيها وساكنيها هذه القصيدة المتواضعة:
***
(الركايا)
***
ويفوح شوقاً غصنُها الرَّطبُ
زيتونُها..
والتينُ والعنبُ
أسرارُها والوردُ يرسمُها
حلماً على الشفتينِ ينسكبُ
تلك (الركايا)…
طفلةٌ ضَحِكَتْ للشمسِ..
عفوَّكَ أيُّها التَّعبُ
مازالَ في ألوانِها مطرٌ
للعشقِ…
للأشواقِ ينتسبُ
مازال…
فيها الوعدُ منتظراً
من أشعلوا النجوى ومن وهبوا
تلك (الركايا)…
تلك أغنيتي..
والمنشدان: الريحُ والقصبُ
***
وسألتُ كيف تلالها…
شَرِقَتْ بالدمعِ…
فاضَ القهرُ والنصبُ
كانَ الصِّغارُ هُنا…
على أملٍ
وهناكَ كانَ لرفقتي صَخَبٌ
وتلبَّدَتِ الجهاتُ..
فلا قمرٌ يسامرُني ولا سُحُبُ
***
النارُ.. نارُ البغيِ تحرقُ ما
رَفَعَ الأباةُ وما بنى النُّجُبُ
النارُ… نارُ الحقدِ أشعَلَها
مَنْ قِيْلَ يوماً (إنَّهُ ذَنَبُ)
***
سقيا لأيام ٍبها سَبَقَتْ
لأحبةٍ في البال.. ما ذَهَبُوا
لعرائشٍ وَقَفَتْ كشاهدةٍ
ليخورَ عندَ مقامِها اللَّهبُ
تلكَ (الرَّكايا) فانْتَسِبْ…
إني إليها اليومَ أنتسبُ
***
ريف إدلب الشمالي: كانون ثاني 2020م