دينا عاصم: تحرش
زي بوست:
طفلة كنت لم أبلغ السابعة عشرة أدرس في الثانوي حين حاصرني ذلك المدرس برأسه الأصلع ورائحة فمه الثقيلة …دهمني فجأة وأنا جالسة أمامه فانتابني ذعر شديد..في البداية لم أستوعب ولكن هي ثوان حتى خبرت الكارثة…كان يضع صورة العذراء في كل مكان ببيته وصورة للمسيح مصلوبا فوق رأسه حيث يجلس ونحن حوله..وله زوجة طيبة لها عينان مكسورتان لسبب غامض..
نقر بأصابعه على المكتب عدة نقرات خفيفة فانتبهت له ..أعاد السؤال..لم قتلت زوجك؟
لم أستوعب جيدا ما قاله..كان رأسي يطن وكأن ألف خلية نحل عششت فيه..سألته…في أي عام نحن ؟ نظر لي متشككا… لم أفهم سبب شكه..فأنا بالفعل لا أدري في أي عام نحن….لا أدري ما أصابني..أنظر لملابسي البيضاء وطرحة لا تخفي من شعري إلا أطرافه…كل ما أتذكره أني أجري على سلم البناية الكئيبة أريد الوصول للشارع بأية طريقة هربا من درس اللغة الإنجليزية.
أتذكر جيدا ..كان بالأمس ربما..كنت أتلقى عنده درسا خصوصيا وتأخرت زميلتي واضطررت أن أسبقها..كنا وحدنا حين حاول أن يلمسني وفي ثوان كنت خارجها ودموعي تسبقني…
كم من الوقت مضى ..لا أدري..هل مر عام حين كنت بطريقي إلى الجامعة وأنا أركب ذلك الباص الممتلىء عن آخره بذكور يرفضون تماما وجودي بينهم.. كل يظهر ذلك بطريقته…
كانت تلك اليد التي تحسستني فانتفضت كمن لدغتها حية ونظرت للواقف خلفي فتجاهل نظراتي وأشاح بوجهه وأرسل لمن حوله نظرات زائغة من عيني ذئب….حاولت أن أنفلت من تلك المعركة غير المتكافئة فلم أستطع ولم يتفضل أي ذكر مكتمل فيجلسني مكانه …ثوان تمر كالدهر وأنا أتلقى التالية من نفس اليد وحين صرخت فيه حاصرتني نظرات السخط وقال أحد الأشاوس “اقعدوا ف البيت جيبتولنا الفقر” في حين أردف آخر “ما هو انت لو لابسة حجاب كنت احترمت نفسك..”
التقطتني سيدة ضخمة البدن قامت وأجلستني وهمست لي بإشفاق “عليهم” “عندهم حق.. محرومين”.. اتهمتني نظراتها فحدقت في الأرض لعلها تنشق وتبتلعني ..إنهم يئدوننا وأد الجاهلية ولكن بطريقة مختلفة تماما .. لا يدسوننا في التراب ونحن لا نسأل بأي ذنب… ولكنهم يدفنوننا على ظهر الأرض..
لا أدري كيف وصل بي الحال إلى العزوف عن الخروج… أقف كثيرا أمام المرآة أتأمل وصمة العار التي يحملها جسدي والتي لا يفتأ هؤلاء المارة من الإشارة لها … هل هذان الأرنبان الأبيضان الجاثمان على صدري وروحي هما سبب ما يحدث .. وما حيلتي فيهما يارب؟! وما حيلتي في هذا الجسد…عليه أعاقب!
حين دخلت والدتي حجرتي وأسرّت لي بالخبر الذي اعتبرته هي خبرا سعيدا… استقبلته أنا واجمة… غير واثقة فيما يحدث تماما…. كان عقلي مشوشا لدرجة لا أحسن فيها الاختيار… قالت بفرح مكتوم وسيم.. ملتحٍ.. يشبه الشوام يابنيتي ستنجبان أقمارا وأضف إلى ذلك أنه متيسر الحال سافر للخليج عقب تخرجه ولكنه يشترط النقاب…. غيور جدا وسيحمي هذا الجمال من شياطين الإنس..
-نقاب… ولم لا ربما يكون هذا هو الحل…
حين كنت بين أحضانه للمرة الأولى لم أكن أعرف ما الذي أفعله بالضبط مع هذا الرجل الغريب، لا أرتاح له.. حاجز خرافي لا أستطيع عبوره إليه.. يتعجب مني لأنني لم أندمج في المجتمع الموغل في البداوة رغم رائحة النفط والعود الملكي اللتين تفوحان من كل ذرة تراب فيه… ولم يفلح النقاب في إزالة الغمة ..
كانت النظرات تطاردني تحت الخيمة السوداء القميئة.. يرمون بأرقام هواتفهم ويتحرشون على طريقتهم….كنت أسخر من نفسي.. فقد استجرت من الرمضاء بالنار… وكان هو .. ذلك الملتحي.. أضبطه كثيرا يطارد النساء بنظراته وحين نعود للبيت يصلي العشاء وركعتي الشفع والوتر وأنا أنظر له ملتاعة في انتظار إشارة البدء بالتهامي بشهية رجل ورع لا يطالع النساء…!
أسأل نفسي كل ليلة وهو ينهشني… من هذا الرجل الملتحي الذي يشبه الشوام ويطارد النساء بنظراته.. أغمض عيني حتى لا أرى نظراته.. أسمع كلمات زوجة شريكه التي أجبرني على صداقتها .. تنظر له بمجون وتخابث قائلة.. ماشاءالله يا حج أيمن زوجتك بدر منور .. أتقيأهما سويا وأشتم رائحة الخيانة كما يشتمها زوجها الذي تدهمني نظراته تماما كما يفعل الحاج أيمن الملتحي مع زوجته والذي يستعملني كل ليلة كآلة بلا حياة ولا صوت.. آلة خرساء عاطلة عن السعادة والانتشاء.. يستعملها وعينه على الأخريات..
لم يكن أمامي إلا الهروب .. أصررت على الهرب.. وكلما حاولت يوسعني ضربا وتحاول زوجة شريكه أن تثنيني ويحاول زوجها فيزيد شعوري بالغثيان…
توسلت لهما .. لا أريد أن أعيش هنا.. صاحت والدتي عبر الهاتف “فقرية” وبجانبها كان صوت والدي يهدر… “حتجيب لنا العار.. الحاج أيمن يشكو نشوزها.. لماذا لا تعطيه حقوقه تلك التعيسة… هل هذا زوج يرفض؟؟. استغفر الله منكن.. ناقصات عقل ودين.. وأولادها.. من سيصرف عليهم إن شاءالله؟؟ ولمن تترك كل تلك الأموال هذه الغبية.. ستظل بلهاء ولن تكبر أبدا”
لم يكن أمامي إلا الانصياع حتى أعود إلى مصر.. رفعت رأسي وسألت الرجل الجالس أمامي على مكتبه .. في أي عام نحن.. نظر لي بحزن ونفاد صبر ولم يجب .. ظل يعبث بقلم في يده على ورقة بيضاء.. سأله الرجل الجالس بجواره “نكمل التحقيق يا فندم ولا هنقفله” نظر له بحيرة وأطرق صامتا..!
كان الوقت ليلا حين استيقظت من نومي منقبضة تحسست الحاج أيمن بجواري فلم أجده… حمدت الله.. لعله خرج أو لعله بالشرفة يشرب نارجيلته المقرفة… كان بالجو رائحة لزجة لا أدري سببها.. قمت والعطش يقتلني وفتحت الثلاجة وجدت نصف “بطيخة” لونها أحمر مثل الدم.. اشتهيتها وحين هممت بتقطيعها لأروي عطشي الغريب، سمعت استغاثة مكتومة بالخارج.. كان الحاج أيمن ينفرد بابنة أختي التي جاءت لتقضي معنا بضعة أيام خلال عطلتنا السنوية.. رأيته الحاج أيمن برأسه الأصلع ورائحة فمه الثقيلة.. التفت إلي مذعورا بنظرات زائغة من عيني ذئب..
ويعيدني الصوت مرة أخرى لواقع غامض لا أفهمه…
-للمرة الأخيرة يا ست رقية.. أسألك.. لم قتلت زوجك؟!