حمدي البصيري: آخر الزنابق

حمدي البصيري: آخر الزنابق

زي بوست:

أنت تعرفني، ولا تعرفني، إذ لم تتعرف عليَّ في الشارع، رغم أننّي استوقفتك هناك، أمام المكتبة الظاهريّة ، ربّما صادفتني في كشك البرامكة، أو كشك الآداب ، أو أبصرتني مع بائع متجول للصحف في كراج باب مصلى ؛ وضعت ربطة الخبز ، وكيس الفاكهة جانباً ، ونقدت البائع ليرتين فوق ثمن الصحيفة الرّسمي ، وقرأتني : “آخر البطولات ؛ مصرع امرأة شابة ؟!”.

كان الجميع يحبّني ، رغم أنّهم شاركوه قتلي ، ربّما لأنهم مثلك تماماً ، يعرفوني ولا يعرفوني . قد يكون ما دفعهم لمشاركته ، ذلك الجزء الغامض منّي ، الذي استعصى عليهم ، ولكنّهم ليلة مصرعي بكوني جميعاً بحرقة .
كان أخي ! ولكنّه كان وحشاً مرعباً بسكين المطبخ العريضة ؛ كان أخي ، ولكنّني لم أبصره. صرخت به : “يا أخي” ؛ كان شخصاً آخر؛ وحشاً ، تتبدل ملامحه بسرعة فائقة. أمسكني من شعري وكبّر ؛ أهرق دمي ، و أنشبَ في السقف فخراً بالعار الذي محاه دمي .
كانت آخر البطولات ؛ مقتل امرأة شابة ” هـ . ن ” عشرون ربيعاً ، وخريف قاسٍ واحد .. عشرون ربيعاً ، وسكين مطبخ عريضة ، تحصدُ آخر الزنابق.

أنت ، تعرفني الآن ، لا تعرفني ، لم تشاركهم قتلي ؟ أيعقل يا رجل ؟! هذا قبري الذي خبأني فيه أخي . من أنت ؟ ومن أرسلك ؟ أنا لا أذكرك. هل رأيت حمالة صدري الحمراء معلّقة على قاطرة قديمة في محطة سكة الحجاز؟ هل قرأت نبأً متأخراً عن محضرٍ حررته شرطة الآداب لـ هـ . ن ضبطت في وضع مشبوه .هل دلّك أحد ؟ ألم يقل لك بأنّه لم يعد لي صدرٌ و لا ورك و لا..
لم تكتب ما أقول ؟ هل تحصي أنفاسي مثلما فعل أخي ؟ قنن الهواء الذي يدخل رئتيّ ، ورماني في قبر يشبه هذا ، ألا تعرف أن هذا لن يجدي الآن ، لأننّي ببساطة لم أعد بحاجة للهواء.

أكتب إذاً : أنا في العاشرة ، وهو في الحادية عشرة ، ولي أم تقول : “هيفاء لأحمد” وأم له تقول: “أحمد لهيفاء” وأبوان لنّا سمعناهما يقرآن الفاتحة ، وكم من مرّة ، لعبنا “عروس وعريس” .
أكتب : أخي الذي ساءه أن تُقرأ فاتحتي ويبقى بلا فاتحة ، و ساءه أكثر ، صفعة زينب التي اختلس منها قبلة ؛ أخي الذي أبعدني عن أحمد ، وداس سنواتي العشر بقدمه الغليظة .
أنا مرتاحة هنا !! لا أحد يدوسني بقدمه ، والعباد من حولي هادئون ، يتلقون حسابهم بصمت؛ يعترفون بكلّ الخطايا ، ويقبلون طواعية عذاب القبر!

لم يسألني أحد هنا، حتى جئت أنت ، تسجّل ، وتشاركني هذا القبر. أخبرني من أنت ، ولم هذا الدفتر يحمل اسمي ؟ هل دوّنت كلّ شيء عنّي . من أخبرك؟
أخي كان يقوم بعمل مشابه ؛ يقدّم تقاريره الملفقة يومياً لأبي . لقد انتقمت منه ، هزمته ، صفعة صديقتي ، كانت صفعتي وشتيمتها له شتيمتي!
أتعرف ، أنت ثقيل الدم ، وأنا لا أطيقك ، صامت أنت ، تسجّل كلّ أقوالي ، وتجلدني بعينين لا ذعتين . ليكن في علمك أن هذا القبر ملكي ، ومسجّل بعقد نظامي لدى المحافظة بإسمي ، ابتاعه أبي بخمسين ألفاً في مقبرة الدحداح ، وليكن في علمك أيضاً ، أنّه دفع فوق ذلك أربعة آلاف ليرة لسيارة دفن الموتى ، وحفار القبر ، و القارئ المنشد . لا داعي لهذا . كل ّ شيء مسجّل لديك ، ألاّ تخشى أن يبصرك أخي عندي ؟ مع ذلك تصرُّ على مشاركتي.

يا إلهي ، إذاً أنت ، أنت ، هل بدأ حسابي . اسمع ، وليكن ، أخي ، حسابه كان أقسى .. دائماً كان يحاسبني ، حتى على نصيبي من الحلوى ، لطالما نهره والدي ؛ كان نهماً ،بشعاً ، مفزعاً، مثلك تماماً . أبي قال عنه مرّةً : ” هذا الولد ليس من صلبي ؟! ” فأخفضت أمي رأسها بانكسار!!
أنت تقتلني بصمتك ، قل شيئاً ، هل أرسلك أخي ليطمئن على عاره المخبأ هنا ، وإذا كنت أنت ، أنت ، فلم لا تحاسبني . حذروك منّي ؛ قالوا لك احذرها؟

حسناً ، اكتب إذاً ، أنا قاتلة الامام ؛ أنا لست جارية لهارون الرشيد ؛ أنا شهرزاد التي قصت عليكم حكاياتها في ألف ليلة وليلة ؛ أنا عار الجاهليّة !!
أنا ، علّقت حمالة صدري رايةً حمراء في محطة سكة الحجاز . عنواني كل العربات القديمة المهملة هناك ؛ كلّ الرجال يعرفون عنواني ، يشتموني نهاراً ويلهثون فوقي كـ ثيران منهكة ليلاً.
أنا زهرة المدينة ، وابنة العشرين ربيعاً ، والمخبأة تحتكم في مقبرة الدحداح ، أنا لست بريئةً ، و لكننّي لست عاهرة ! أول مرّة قبّلني أحمد ، أحسست بزلزال راعش ، خدر ممتع لم أعهده ، لم يكن أحمد يختلف كثيراً عنكم ، ولكنّه كان رجلاً، بالطبع أنتم رجال ، ولكن أحمد فيه شيء مختلف ، شيء أحسّهُ أنا دون نساء الأرض ، شيء لا تحدّه الكلمات ، لذا قررت أن أكون له وحده . ساءك أن تكتب هذا . تكلّم. يا إلهي ، لم أعد أحتمل ، دع كفني وارحل . خذ دفترك معك ، ارفع تقاريرك ، لمن شئت ، قل له: هذه العبدة خاطئة ، زانية ، عاهرة ، بائعة هوى ، قل ما شئت لقد شربت كأسي ، وحان الوقت لأبرأ منكم.

أخي ، خبأني هنا ، وارى عاره في هذا القبر ، فلم جئت تنبش عاره . جارتنا أم محمود الداية ، غسلتني بعينيين دامعتين ، وتحسّرت على شبابي . كلّ الرجال الذين تسلقوا جسدي ، بكوا ليلاً عليّ في أسرّتهم الموحشة دوني .
أكتب ، أحمد قالها مرّة ومضى : “هيفاء ، لم يعد بمقدورنا الاستمرار !!” مرّة واحدة قالها ، أحسسّته حينها مثلكم تماماً ، بات قزماً بعينيّ و .. كان الغياب ؟

لم أصدّق ، عدوت خلفه منتصف الليل ، صرخت في الحارات الدمشقية القديمة : ” أحمد ، أحمد ” صوتي تلاشى في أزقة باردة معتمة . صحوت على حذاء أخي فوق رأسي ، وقد ضبطني في المنام ، أنادي أحمد ذهب ولم يعد . أفقت لأرى أمّي دجاجة ضعيفة ، تبرك فوقي باكية . أفقت لأرى الديكة تتقاتل للاستئثار بجسدٍ عشق أحمد .. ابن الجيران تمادى ، مدرس اللغة ضايقني ، صبي الفرّان ..
قررّت ألاّ أكون لأحد بعينه بعد أحمد ، وهكذا صرت لكلّ الرجال ، أستبدلهم مثلّما أستبدل الحذاء . انتقمت لنفسي ، وانتقمت لك يا أمي ، ولكلّ امرأة وضعها رجل مستبد في القن.

أكتب ، عندما صرخت : “يا أخي” انحنى أخي عليّ . اقتلع من صدري خرزة زرقاء ، وتميمةً تحميني . بسمل أخي ، كبر . نظرت إليه بحبّ غريب . مدّ سكينه اللامعة العريضة . شعرت بأننّي شاة ، ثغوت . قال كلمةً تعني بلهجتنا مزيجاً من الانتقام والسخرية ، أو شيئاً يشبه ذلك ، لم يكن ينظر إليّ مباشرة ، حتى لو فعل ، لم أكن لأراه . كان قد أغمي عليّ . حزّت سكين المطبخ عنقي . أهرق دمي ، وصعدت ، صعدت روحي.

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s