ابتسام شاكوش: مناورة
زي بوست:
استلقى على السرير بكامل ثيابه , استعرض نعل حذائه على مرآة الخزانة المقابلة وتنفس بارتياح , تاركا للخادم مهمة الاعتناء بالطائر الحر , القادم للتو من عند بائعه بقفصه المذهب محمولا بين يدي صبي أجير
ما كان يوما من هواة الصيد , طرا ئده تأتيه إلى باب بيته مذعنة , لكنه يأبى وبعنف . أن ينافسه أحد على اقتناء الأشياء الجميلة والثمينة.
***
نقلت البصر بين رأسها المرتسم على صفحة المرآة مستسلما لأصابع المزين الرشيقة وبين حذائها الذي سيكون محط نظرها في السهرة القادمة , هربا من عيون مفترسة سوف تحيطها , هربا من ظنون دنسة تلحق بها بعد كل سهرة مشابهة , تكدر صفوها , أطلقت تنهيدة تختزل حرائق الروح في لجة الصمت , مولية ظهرها للثوب الأنيق , القادم من متجره هذا المساء من أجل سهرة مفاجئة.
***
انبثق القمر من الشرق , راح يتهادى فوق بساط من مزق الغيوم الصقيعية البيضاء , ناثرا سناه خارج أسوار ذلك القصر المحصن بأرتال مدربة من الكلاب السمينة , غير آبه بأضواء النيون المتناثرة في كل مكان , محولة نهاره المكفن بظلمة الستائر الصفيقة , كما ليله , إلى ما يشبه انعدام الزمن في أزلية السجون.
***
وقف أمام مرآته يعيد حلاقة ذقنه , يفيض تيها ومرحا , يسكب العطور أنهارا على مفاصل جسده , يرسل سحب العبق الحاد إلى خارج حدود الجدران والأسوار , منتظرا ضيوفا أجلاء ذوي كروش بارزة , وعيون فارغة , ليستعرض أمامهم أثمن مقتنياته.
***
وقفت أمام مرآتها تستكمل زينتها , الصقر قابع بذل في قفصه يلوك قهره ,و يمسحها مرة تلو مرة , بنظرة استهجان وشفقة , نظراته الحادة اخترقت عظامها , أخرجتها من نفسها ودت لو تعانقه , لو تزرع قبلاتها على نصل منقاره الأحدب , على رأسه المتقد شموخا وعنفوانا ولكن … هذا الجارح الحاقد على من سلبه حريته وآذاه في نقطة أمانه , قد لا يدرك مغزى اندفاعها وحجم عواطفها فيباغتها بنقمته.
***
حاقد ؟ هذا الوحش الجميل حاقد وحق له الحقد , مسحت قضبان القفص بحنان , نسيت زينتها وجثت أمامه : كلانا يا صديقي غاضب حاقد , يملك جسدا جميلا حق لمالكنا الفخر باقتنائه , جسدك مزين بريشه وجسدي مزين بما يجلبه من أثواب وحلي ,كلانا اقتنص من علياء كرامته ليعرض هنا , فرجة للمتفرجين , ضمن ما يقتنيه صاحب الكلاب.
***
أغلقت باب غرفتها بحذر واحتضنت القفص أمام دهشة الطير اللائذ بالسكون , دلفت الى الشرفة , الشرفة تخاصر القصر , تدور حوله , راقصة بحليها من المصابيح الملونة , ضيوف اليوم لم يصلوا بعد , من وصل منهم لن يغامر بكهولته فيغادر القاعات المدفأة ليقارع الصقيع على الشرفة وحيدا , السلم المفضي للسطح مشحون بالظلام , الظلمة تنضح رعبا , الرعب يمتزج بنشوة النصر , برعشة البرد , بقلق المغامرة , ينشر شحنات كهربائية متلاحقة في عمودها الفقري , الطير يبدي حركات قلقة , تجثو تشد القفص الى صدرها بقوة أكبر , بحنان أكثر , العينان المتوحشتان للصقر تجوسان المكان بنظرات سريعة متفحصة ثم تستقران عند عينيها مستفسرتين : ماذا أنت فاعلة ؟ تفتح الباب الحديدي الثقيل المؤدي الى السطح فيغمرها النباح , وضوء القمر , صخب القصر ينأى عن مسمعها , ضجة الموسيقى تختفي , والطائر يفرد صدره للأفق متحفزا لاستكشاف المجهول.
***
الأفق عاتق ميزان في إحدى كفتيه ريح و نباح , وفي الأخرى أب منكسر ذليل النظرات البرد يخترق عظامها , الطير في قفصه يرتعش بعنف , تهدأ الريح فتستقيم قامات السرو , ينطلق النباح من جديد , نباح لا يشبه النباح تنصت برعب , مستمدة الشجاعة من عيني الصقر المتقدتين داخل قفصه الذي تعانق , العينان تحدقان في الفراغ المظلم , ترصدان هدفا خفيا , تلتمع شهوة الموت في العينين الحادتين , وهما تمتصان ضوء القمر , يعكس الضوء كل ما فيهما من شراسة ووحشية ,تستبد بها نشوة التحدي , تتمنى لو يتحول هذا الصقر رجلا , تتمنى لو تتحول هي … تتمنى وتتمنى وأين منها الأمنيات …. تنتفض بشدة , تختلج جوارحها , تمد ذراعيها من عري الثوب الجديد لتعانق القفص , بعنف يعادل قهرها , تتحطم القضبان, يصفق الصقر بجناحيه فتصفق معه شغاف قلبها.
***
الريح تزأر في سياج السرو , يخفت صوت النباح , تفرد جناحي ثوبها الجديد على امتداد قضبان القفص ,ينبت فيهما الريش , تغمض عينيها مأخوذة بسكرة الطيران , يشتد زئير الريح ,فيخمد النباح ينتفض الصقر مبتهجا , كوة صغيرة فتحت في جدار عبوديته , يتحدى الظلمة ويطير , تلحق به , سكرى بنشوة طيرانها الأول , يبتعدان , مخلفين ورائهما سطح قصر كبير يغرق في بحر النباح , و جسدا يشخب دمه قانيا من ذراعين عاريتين ناعمتين جرحهما معدن القفص.