من رواية خطيب بدلة: أبو دياب يتكلم في الأفراح (1)

من رواية خطيب بدلة: أبو دياب يتكلم في الأفراح (1)

زي بوست:

الفصل الأول:

السيدة “أم نذير الدايخة”.. امرأة قوية البنية، معلمة متقاعدة، في السادسة والخمسين من عمرها، ذاتُ جَمَال سابق، لا يمكن لرجل “نسوانجي” محترف أن يمر بأنوثتها مروراً عابراً..
كانت مستلقية على الأريكة قبالة جهاز التلفزيون العتيق المثبت على لوح خشبي مائل في زاوية غرفة الجلوس، شاردة بعض الشيء، ينتابها خوفٌ غامض مبني على إحساس لا يمكن تفسيرُه بأن الأيام القادمة ستكون صعبة عليها، وعلى أسرتها.
فجأة، سمعتْ أصواتَ تكبير رجال، وهتافات تتردد فيها كلمة “حرية”، فحسبتْ، لأول وهلة، أنها صادرة عن إحدى المحطات التلفزيونية الإخبارية التي اعتادت أن تنقل مقاطعَ من المظاهرات التي تخرج أيامَ الجُمَع في أنحاء مختلفة من سورية.. ولكنها؛ حينما فتحت عينيها، وعركتهما، وجدت التلفزيون مستقراً على “الفضائية السورية” التي كانت تبث حديثاً دينياً للشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، يتحدث فيه عن وجود خطة محكمة للتآمر على سورية، وزعزعة أمنها واستقرارها، تنفذُها دولٌ مختلفة في المنطقة القريبة منا، ودولٌ أخرى من العالم، وأن هذه الخطة موجودة منذ زمن بعيد، ولكن الدول المتآمرة قد بدأت بتنفيذها الآن بعد أن نضجتْ ظروف التآمر.
دب الخوف في نفس أم نذير، وهُرِعَتْ، دون تفكير أو تردد، إلى غرفة ابنها “نذير”، تريد تحذيره من مغادرة البيت في هذا الجو المُرعب. وكما توقعتْ تماماً؛ وجدته يرتدي ثيابه على عجل، ويردد مع أصوات المكبرين عبارة (الله، سورية، حرية وبس)، ملوحاً بيده، وكأنه يريد أن يُشْعِرَ المتظاهرين بأنه على وشك الانضمام إليهم خلال ثوانٍ.
نذير، أبو دياب، هو ابنُها الأكبر الذي يعيش معها في البيت، وسيم، أقرب في الشَبَه إليها، عازب على الرغم من إتمامه الثلاثين، نال، قبل ست سنوات، شهادة الإجازة في الاقتصاد والتجارة من جامعة حلب، ولم يحصل على وظيفة بسبب التقارير الأمنية الكثيرة التي يصفُه بعضُها بأنه حيادي إيجابي، ويشير بعضُها الآخر إلى أنه “حيادي سلبي وعنده نَفَس مُعَارِض”.
يذهب “أبو دياب” بين الحين والآخر إلى النهر البارد بالقرب من بلدة جسر الشغور، ويأتي بحجارة من نوع خاص، ويصنع منها منحوتات جميلة يضعها ضمن مكعبات شفافة، ويصففها على أرفف خزانة ذات واجهة زجاجية. يعاني من مشكلة في مفصل ساقه اليمنى تُسَبِّب له ألماً يغيب فترة ثم يعود دون نظام محدد.. إنه أحبُّ أبنائها إليها، بسبب ذكائه الشديد، وطيبة قلبه الاستثنائية، وجاذبية حديثه التي تأتي من صراحته الغريبة، ومقدرته على حَبْك الحكايات، وإدخال بعضها ببعض.  
التفتَ أبو دياب نحو أم نذير، فوجد عينيها مغرورقتين بالدمع. أوقفَ يَدَهُ التي كادت، أثناء حركتها المرافقةِ للهتاف أن تصطدم بوجهها.. قال لها بحياد، وكأنه يتحدث عن شأن لا يخصهما:
– أنا بعرفْ ليشْ عَمْ تبكي. إنتي عَمْ تتخيلي إني بدي إنزلْ عَ الشارع، وإنْضم للمظاهرة تَبَعْ “الله، سورية، حرية، وبَسّ”، وإنُّه عناصرْ كتيبة حفظْ النظامْ والمخابراتْ راح يديروا سبطاناتْ البواريدْ والمسدساتْ عليّ وعلى رفقاتي، ويحصدونا حصادْ، وإنُّه بعد ما أنا أطلعْ من هون بشْوَي راح يجيكي خبر موتي، وينحرقْ قلبكْ عَلَيّْ.
هَمَّتْ أم نذير بالإجابة عن سؤاله، ولكنه تابع يقول باندفاع:
– أو يمكن عَمْ تتخيلي إني راح كونْ بعد شوي في قلب المعميكة (الفوضى)، وإنُّه العسكرْ بدهم يطوقونا، ويضربونا بالقنابل الدخانية، وأنا ما عادْ شوف بعيوني، ويمكن يغمى علي، وإفتل في أرضي متل المسطول، لحتى أوقع بين أيديهُنْ، ويشيلوني ويزتُّوني في السيارة من ورا متل كيس البطاطا، وبعدها ما بيبقى إنسان أو حيوان أو جنّيّ بيحسن يعرف وين أنا.
مشى نحو باب الغرفة، فلحقت به. توقف، وتابع يتحدث بطريقته التي لا يمكن تمييز الجِدّ من الهَزْل فيها:
– هادا الاحتمال واردْ، بس إنتي، متل كل الأمهات، بتحطي قدامك الاحتمال الأسوأ، وهوي إني بدي أشارك في المظاهرة تَبَعْ المعارضينْ.. الظاهر إنك ما بتعرفي أشو اللي عَمْ يصير عَ الأرض. يا ستي جماعة النظام من أولْ يوم في الثورة بَلَّشُوا يْسَيّرُوا مظاهرات مؤيدة لبشارْ الأسدْ.. (راعي العِلم والعَلمانية والمعلوماتية والديمقراطية في هذا البلد المعطاء)، وصارت مظاهراتْ المؤيّدين تمشي وَرَا مظاهرات الاحتجاج، الكَعْب عَ الكعب؛ اللي ماشين قدامْ بيصيحوا “الله، سورية، حرية، وبَسّ” واللي وراهن بيصيحوا: “الله، سورية، بشار، وبَسّ”.. بتعرفي يا أم نذير؟ خطرت لي فكرة.. هلق إذا أنا بمشي مع هدول المأيّدين بْمْرُقْ من الاعتقالْ والمشاكلْ، ويمكن ينفتحْ لي بابْ السعدْ، وبصيرْ إنسان مُعْتَبَرْ بعدما مَضّيت عمري وأنا عم أفتلْ على كعبي من كتر تقاريرْ (الحيادْ السلبي والنَفَسْ المُعَارِضْ).. ويمكن يوظفوني بشي دائرة أو مؤسسة، ويعطوني أجرةْ مشاركاتي في مسيرات التأييد لراعي العلم والعلمانية عَ القطعة.. وفي كمان احتمالْ. بتحبي تعرفي أشو هوّي؟
قالت أم نذير وقد أصبحت أسيرةَ هذا الحديث اللذيذ: أي بحب.
قال: باخد موقف المتفرج اللي عَمْ يستنى حتى يعرفْ لوين بدُّه ياخدنا الوضعْ الجْدِيْدْ، لأنُّه مدينة إدلب، متلما بتعرفي، تأخرتْ بالتظاهر ضد النظام.. بتعرفي أشو صار مع صديقي ناصر؟
قالت وهي تمسك يده بحنان: لا والله ما بعرف. أشو صار مَعُه؟
قال: من شي أسبوعين، لسه ما كان في حدا عم يسترجي يطلع، لأنه المخابرات والشبيحة مسيطرين ع البلد بشكل كامل، وأكتر شي عم يتغلغلوا بين المصلين في الجوامع، وناصر عم يحلم تصير عنا مظاهرات متل بقية المدن.. فاتفقْ مع مجموعة من أصدقاؤُه على خطة محددة، وهي إنهم يتجمعوا قدام باب “جامع شعيب”، ولما بيطلعوا المصلين من الباب بيبلش هوي بالتكبيرْ، وهنّي بيرددوا وراه. لاكنْ أصدقاؤُه، لما شافوا الشبيحة هاجمين بالعصي و”البمبكشنات” خَرْيَطُوا. وشَمَّعوا الخيط وقالوا يا فَكِيْكْ، ووقعْ هوّي بين أيديهم، وبلشوا فيه الضرب بالأيدين والرجلين، وتركوه ملقح على الأرض وراحوا.. ولما سألُه رجّال ختيارْ، إنُّه ليش هالبغال ضربوك؟ قال له: هدول تجار من منطقة “الغاب”، كنتْ موصيهم على حمولة سيارتين جَزَرْ، وأنا ما حسنت إدفع التَمَنْ فضربوني. قال له الختيار: ولأيش بيلزمك الجَزَرْ يا عين عمك؟ قال له: تصور يا عمي نحنا اليوم في 22 نيسان (2011)، والناس في سورية عَمَّ يطلعوا مظاهرات من نص آدار الماضي، ونحن لسه عم نتخبى في بيوتنا. منشان هيك وصيت ع الجزر حتى أطعميه لرفقاتي اللي شمعوا الخيطْ وانْهَزَمُوا متل الأرانب!
ضحكت أم نذير على نحو مجامل، وأبو دياب تابع كلامه قائلاً:
– الاحتمالْ الأخيرْ إني وَقِّفْ عند مدخل البناية، وأتفرجْ عَ المتظاهرين اللي بيمروا في شارع القصور، وإذا صار وما صار بدخلْ عَ البيتْ، وبقول للي بيسألني: شوف خيو، أنا وأمي وأخوي نادر وأخوي عمار وخالتي فوزية، ما إلنا علاقة بشي، الله يفرّج عَ الناس، ويطفيها بنوره، ويجيب العواقب سليمة.      
قالت أم نذير بحماس: هادا عين العقل.
وشمشمت بأنفها وقالت: ولي. أنا نسيانة ركوة القهوة ع النار. يمكن انكبتْ. تعال معي تعال.
وسحبته من يده وسارت به مسرعة نحو المطبخ.
 

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s