إبراهيم شاهين: أيام غريبة
زي بوست:
مشتاق أنا، مشتاقٌ ليومٍ عاديٍّ، عاديٌ تماماً، يشبه أياماً كثيرة تحصل في أماكن عديدة، مع معظم البشر العاديين حول العالم.
في صباحه أقمع رنين المنبه الوقح مرتين، أنهض من السرير متأخراً نصف ساعة كاملة عن موعد النهوض للذهاب إلى العمل، أرتدي ملابسي على عجل، أغضب من إبهام قدمي اليسرى وهو يوسّع ثقبا صغيراً ويفرُّ خارج الجوارب وأنا أدكُّ قدمي في الحذاء.
وقد أصبُّ في هذا اليوم العادي، جام صوتي الغاضب، على جاري حين أضبطه يحمل أعواد الملوخية التي قطف أوراقها الآن، ويريد أن يكوّمها في الزاوية بين بابي وبابه.
وحده زميلي رشيد ينتبه إلى وصولي متأخراً إلى المكتب، ينظر إليّ من فوق نظارتي القراءة التي يضعها على عينيه، أجلس خلف طاولتي وأنا أقول لرشيد بصوت غير منطوق: خرّيها.. وبحركة غير مرئية أرفع في وجهه إصبعي الوسطى، رشيد مخبر علينا لإدارتنا ولأية إدارة غيرها في الكون.
وككل أيام العمل الحكومي في الدول العاديّة التي تشبهنا، لا أباشر العمل قبل أن أشرب فنجان القهوة من البن الرديء الذي يبيعنا إياه عامل البوفيه، العامل الغشاش النشيط.
أعمل عملي المعتاد، ساعة أو ساعة ونصف في اليوم، طبعاً هذا يكفي ليوم عمل عادي في بلد عادي.
أنهي عملي، أسحب الجريدة عن طاولة رشيد، أنتبه إلى حلاوة اشتياقي إليكِ، أحل الكلمات المتقاطعة الغبية، أربعة عمودي، كلمة من حرفين بمعنى سقاية، ( ريّ ) يصيح رشيد بخُيلاء، أتنهد كمن يمسح الغبار عن ضلوعه، مشتاق لوجهك، أتأمل الشارع من زجاج النافذة الذي ضببه التنظيف المرتجل، أتابع امرأةً جميلة تسيرعلى الرصيف تحت النافذة بخطوٍ إيقاعه مضبوط، نسمع صوت انفجار قوي، أفتح النافذة ، أسأل السيدة الجميلة: ما هذا الصوت؟
تجيبني بهلع: لا أعرف، أنا لست من سكان هذه المنطقة.
أضحك في سرّي، أحبه أحياناً الغباء العفوي.
أخرج من المكتب، أقف بجانب شرطي السير، أشتم سائقي سيارات الأجرة، الشرطي لا يبالي بي، أركض صوب الميكروباص، أحشر نفسي على مقعد صغير، أغلق الباب السحّاب، تقع عيني على شرطي البلدية يصفع صبياً صفعة أوقعت من يد الفتى صندوق البويا الذي كان يحتضنه.
أكمل قراءة مقال لصحفي أراه كثيراً على شاشة التلفزيون بلحية رمادية، يرفع بنطاله بحمالات ملوّنة وأسمعه كذلك كثيرا في الإذاعات، ويكتب في عدة جرائد، يبهدل الكاتب في مقاله المعارضين الخونة، يشتمهم بوطنيتهم لأنهم لا يرون في الوطن سوى المشاكل والسلبيات، ثم يشرح لنا معنى الوطن الذي لا يعرفه هؤلاء، الوطن هو رائحة خبز التنور وتنكة النيدو المزروع فيها الحبق، هناك عند أمه في الضيعة.
يرن جوّالي على رسالة من كلمتين: ( ياسر طلع)، بعد ثمانية أشهر من الاعتقال أفرجوا عن ياسر، ثمانية أشهر فقط!، محظوظ هذا الياسر.
قبل العودة إلى البيت، عند بائع الخضار، أتذكر وجهك الغاضب، ابتسمت، تخيلتك تضحكين حين أخبرك أنني تذكرت وجهك الغاضب وأنا أنتخب بعض حبات البندورة من صندوق كبير .
أدخل البيت وأنا أفكر بألوان حمالات بنطال الكاتب المهم، صوت صفعة الشرطي على وجه الصبي البويجي، ما يزال يرنُّ في أذنيّ، ينقذني صوت ياسر وضحكته التي تكاد تُخرجه من الهاتف: ما اشتقت لي ولاك؟
مشتاق لك صديقي ياسر، ومشتاق لكِ أيضاً، ومشتاق لأن أنام بعمق طيلة بعد الظهر، نوماً عادياً في يومٍ عادي، يومٌ ليس فيه انفجارات مجهولة أو معلومة المصدر، وليس فيه مقالات فارغة تُنشر في صحف فارغة توزع مجاناً لتُقرأ بالإكراه، مشتاق ليومٍ عادي مليء بضحكة ياسر المتدفقة كنهر، ومليء بكِ، بوجهك الغاضب كطفل مقهور، المبتسم كصبيّةٍ أنهت للتوّ أول لقاء مع حبيبها، المتأهب كشجرة كرز قبيل نيسان، مشتاق ليومٍ عاديٍ، يومٌ عاديٌ غريب، لم أعشهُ حتى مرة واحدة في حياتي.