كتب محمد الحاج صالح: سرقة القرآن من طاقة الكعبة
زي بوست:
عام 1928 أو 1929 سافر جدي “حميدي” مع أبيه الحاج صالح إلى مكّة عن طريق البحر من بيروت عبر قناة السويس. تلك كانت المرة الثانية التي يحجّ فيها الحاج صالح، فقد كانت الأولى قبلها بسنوات عدة مشياً على الأقدام، أكرر مشياً على الأقدام. لكن هذه الأولى ليست جزءاً من قصتنا.
كان “حميدي” ما يزال شاباً حامي الدم نشطاً. وعلى الدوام كانت درْوشة أبيه تُغضبه. لذلكَ ولأن الإقامة طالتْ في مكّة نتيجةً لتأجيل الحاج صالح السفر مرة بعد مرّة مسروراً بمجاورةِ الحرم، فإنّ حميدي بنى علاقات متينة مع المكيين حتى مع النساء.
وفي يومٍ أراد أن يجلب السرور إلى والده بعد أنْ تعرف على عائلة “القيّمين” على الكعبة، وبعد أن وصل إلى كبير عائلة القيمين وأهداه أو “برطله” بشيء ما. كان هدفه الدخول إلى داخل الكعبة والصلاة فيها، فبابُ الكعبة مغلقٌ على الدوام، لا يُفتح إلا عند غسلها أو بسبب زيارة لصاحب نفوذ أو على رغبة القّيّم.
دخل الابن وأبوه الكعبةَ مبهوري الأنفاس. إنّه بيتُ الله. وزاد “القيّم” من ارتباكهم وخشيتهم بسؤاله إنْ كانوا يعرفون كيف يصلون في جوف الكعبة. السجود بين القدمين؛ قال القيّمُ.
أكان هذا الرجل الحضريّ يستخدم اللؤمَ ساخراً؟ أم سأل جادّاً؟
صلى الابن وأبوه متقوسين بأقصى ما يكون التقوس في الركوع، وبين الأقدام في السجود. كانت حركات الصلاة بالنسبة لـ”حميدي” سهلة فهو مازال شاباً، أما للحاج صالح فكانتْ جهداً رهيباً، فالمفاصل باتت يابسة والرأس لا يمكنه أن يتوضع تماماً بين القدمين. يذكرُ “حميدي” أنّ نوبة ضحك كادت تنفلتُ منه، وهو يسمع فحيح أبيه ويَجهد في أنْ يقوّس ظهره إلى أبعد حدّ ليأتي رأسُهُ بين قدميه ولا ينجح إلا قليلاً.
ما إنْ أنهيا الصلاة حتى أجهش الحاج صالح بالبكاء وراح يتقرّى كل شبر من أرضية الكعبة، وما تصلُهُ يداه من جدرانها، بلْ وراح يمرّغ جسده بالأرضيّة وبالجدران متدحرجاً على الأرض تارة، وملتفّاً حول نفسه دائر مدار الجدران تارةً، كما لو أنه يريد لجسده أن يمتصّ كلّ قدسيّة الكعبة؛ بينما كان الابن يتملّى الجدارن والطُوق (كل النوافذ والشبابيك والطُوق المستديرة؛ اسمها: طُوق في قريتنا وما حولها في ذاك الوقت). لم يكن أياً من النوافذ نافذاً إلى الخارج. في الحقيقة ما كانت إلا خزائن تحتوي رفوفاً، وتصطف عليها قرآنات، بعضها بهيٌ مُذهب، وبعضها الآخر مُتفَسّرُ الجلد قديمٌ.
عندما خرجا لاحظ الحاج صالح بين غلالة دموعه أن ابنه “الحاج حميدي!” وقدْ شرع بمناداته هكذا :”حج حميدي”. ألم يحج هو أيضاً؟ لاحظ أنّه يمسك شيئاً ثقيلاً تحت قفطانه. ماذا تحمل حج حميدي؛ سأل الحاج صالح. لا شي؛ أجاب حميدي. ولكنك تحملاً شيئاً حجي؛ ماهو؟. لا شيء. همّ الأب الباكي أن يفتش ابنه بالقوة. لكن الإبن هتف من بين أسنانه: إنه قرآن، لا تفضحنا سيعرفون. أسرقت قرآن ياكلب ياحجي؟ أرجعه في الحال يللا. مرة أخرى هتف الابن من بين أسنانه: بكره بكره أعيده؛ لا تفضحنا.
طوال الطريق إلى البيت المُستأجر ظلّ الحاج صالح يبكي ويدمدم: أتسرق قرآناً من طاقة الكعبة يا حجي الكلب يا ابن الحرام؟
وظل “حج حميدي!” على كلمةٍ واحدة لا يتزحزح عنها: بكرة يا أبي بكرة أعيده. لا تفضحنا.
لم يُعد “حميدي” القرآن بلْ أخفاهُ واشترى قرآنا آخر حديثاً، وأودعه جانب جدار الكعبة قرب الباب وانْصرفَ راضياً عن نفسه، وكذب على أبيه.
في أواخر الأيام وعندما نشأنا نحن وِلْدُ الولد راحتْ نظراتنا الذئبية تتذاوبُ حول قرآننا الثروة المكتوب في الأستانة منذ زمن بعيد بعيد وبخطّ اليد. وكان القرآن وعلى الدوام متوضّعاً على تَنْصيبةٍ خشبية، نسمّيها كرسي القرآن. كرسي كبيرٌ يحملُ جوهرةَ مضافتنا؛ قرآننا المسروق من طاقة الكعبة، إمّا مغطى بشاش أبيض ناصعٍ أو في “بيتٍ” من قماش الشيفون الأخضر الثمين والنظيف على الدوام. لكنّ عاديات الزمان كانتْ قد مرت به هو الآخَرُ وراحتْ أوراقُه تتقصّف، وجلد غلافه يهترئ ويهرهر، وحبره الأحمر يبهتُ حتى كاد يختفي، وحبره الأسود صار رمادياً.
صرنا كثراً، نحن أبناء العمومة وأبناء أبناء العمومة، وكل واحد منا يتحين الفرصة ليسرق قرآننا الثمين. كلّنا يعرف قيمة هذا المخطوط وتاريخه، كلنا كان يمنّي النفس بسرقته ذات يومٍ.
تفرقنا في المدارس والجامعات وانتقل أهلنا جميعاً تقريباً إلى الرقة وتهدّمت المضافةُ، واختفى القرآن.
أحدُنا سرقه هذا مما لا شك فيه. لكن من؟ لا أحد يعترف.
*المصدر: صفحة الكاتب في فيسبوك