عبد القادر حمود: لعلها ذكريات أو أنها….
زي بوست:
لا أعرف هل هي جزء من الأسطورة أم أنها مجرَّد ذكرى في أفق يعجُّ بالضجيج والأسئلة، ولعلَّها فسحةُ حَنينٍ أيقظها الغيابُ في سانحة ارتسمتْ خلال أسئلة الواقع…
لنتوقَّف قليلاً، ولنضبط ساعاتنا على اللحظة، ثم نبدأ رحلة نحو الأعماق، نحو هدف أحاط به الضباب وأخذ من معالمه أشياء وأشياء، ربما احتجنا لأكثر من عشرة خطوات لوراء، اثنتي عشرة خطوة تقريباً، مدة الخطوة سنة كاملة، وفي نهاية الأمر سأجدُ نفسي في المكتب الذي كنتُ أعمل به هناك في أحد الشوارع الفرعية في حيٍّ حلبيٍّ معروف (شارع سدّ اللّوز/ حي الشعاّر)، وستكون معي في المكتب على الكرسي المقابل طفلة حول العاشرة أبرزُ ما فيها وباختصار شديد أنها هادئة الصفات، اسمها (رهام)، وكان مشروعنا لذلك اليوم محاولة كتابة قصّة متكاملة (للأطفال)، وبالطبع كان ذلك ضمن مشروع أكبر الأمل منه تنمية موهبة الطّفلة ريثما يشتدُّ عودها بعد أن أثبتت أنّها تمتلك بذرة موهبة واعدة في مجال القصّة القصيرة (تحديداً قصّة الطّفل للطّفل)..
وكان الاقتراح أن أختار لها موضوعاً مجرَّداً لتبدأ المحاولة، وكان الاختيار موضوع (الغرور)، ولكي لا تقع الطفلة تحت ضغط ما، طلبتُ منها أن نبدأ العمل فيما يشبه اللّعب أو التسلية، فهي ستأخذ مكانها في المكتب المقابل وتبدأ عملها دون أيّ تدخّلٍ مني، وخلال ذلك سأحاول كتابة قصة ضمن الإطار نفسه، وسأتقبل رأيها فيما كتبتُ كما كانت تتقبل رأيي فيما تكتب، وفي نهاية الأمر كانت محاولتان قصصيّتان، أولاهما (الغرور مقبرة النجاح) لرهام تلميذة الصف الخامس، وثانيتهما (الجبل المغرور والشمس) لكاتب هذه الكلمات، ولقد أعطيت رأيي فيما نتج قبل أكثر من عقد من الزمن مانحاً درجة جيّد جداً للقصة الأجمل، وغادرت الطفلة ذات الصفات الهادئة فرحة يما حققتْ، ولقد احتفظتُ بمسودة قصتها كم احتفظتُ بمسودة قصتي بين مسودات وأوراق شتّى، ولم أكن أعلم أنها ستصبح (لسبب ما) بعض أشيائي الغالية…
وكان أن بدأتْ رحلةُ الغياب (لا أعرف هل هي رحلة لي وحدي أم لكلينا)، لقد غادرتُ المدينة في منتصف السنة الثانية لثورة الكرامة (منتصف سنة 2012م)، وضاعتْ خلالَ ذلك عناوينَ وذكرياتٍ وصورٍ كثيرةٍ، والذي سَلِمَ من الضَّياع استكانَ لزاويةٍ ربَّما كانتْ نائيةٍ متجنباً زحمةَ الأحداث وتسارعَ الخطوات…
وعلى كل حال فأنا لا أعرف أيَّ شيءٍ عن الطِّفلةِ الآن بعد فشلي بالاتصال بها أو بأسرتها نتيجة أحداثٍ وأحداثٍ ومسافات مختلفة ضيّعت العناوين قبل أن تضيّع أشياء كثيرة…
لم يبقَ منها إلا بعض قصصها التي تحدَّت الغياب وبقيت طازجة الرائحة واللَّون، محملَّةً بالكثير الكثير من الذكريات التي مازالتْ ترفرف خلال حروفها وكلماتها والتراكيب المختلفة، ولعلَّ مُسَوَّدَتَيْ قصَّتينا: (الغرور مقبرة النجاح/ الجبل المغرور والشمس) أبرز ما بقي معي منها، فقد أعادتاني إلى زمن ما، مكان ما، حدث ما، ولا أجد ما أقوله أكثر من ذلك…
فهل كانت ذكريات أم أنها…
***
• الغرور مقبرة النجاح
• رهام عبد المجيد
***
قرَّرتْ إحدى المدارس تكريم المتفوِّقين في منتصف العام الدراسي، وكانت (رانيا) و(ديمة) من المتفوقين، فكرَّمَتِ المدرسةُ رانيا لكنَّ ديمة لم تكرَّمْ لأنَّ علاماتها في الامتحان ليست جيدة فقد مرضت والدتها وكان عليها أن تساعدها..
لقد حزنت ديمة، أمّا رانيا فقد تسرَّب الغرور إلى نفسها حتى (طال السماء)، فانزعج جميع التلاميذ منها ومن غرورها، ولم تعد تدرس لظنّنها بأنه إن استطاعت النجاح في الامتحان النصفي فلا حاجة للدراسة بعد ذلك…
أما ديمة فقد استمرت بالدراسة والتحضير الجيّد وعندما اقترب الامتحان النهائي لم تكن رانيا تدرس بسبب غرورها أما ديمة فقد درست جيّداً، وعندما حان موعد تسليم (الجلاءات) كانت ديمة ناجحة بدرجة ممتاز، وكرَّمتها إدارة المدرسة أما رانيا فكانتْ ناجحة ولكن بدرجة جيّد، ففرحتْ ديمة كثيراً أما رانيا فاعتذرت وقالت (لن أعود للغرور مرة أخرى)…
***
• الجبل المغرور والشمس
• عبد القادر حمّود
***
كان الجبلُ يقفُ بقامته المنتصبة، وحجمِهِ الضَّخمِ جدّاً، تنمو فوق سفوحه الأشجار، وتتساقط الثلوج فوق قمته في فصل الشتاء..
نظرت الشمس إليه ذات صباح وقالت: (ما أجمل قبَّعتك البيضاء وثيابك الخضراء أيها الجبل!!)..
نفخ الجبل كرشه الضخم وشمخ برأسه ونظر باستهتار نحو الشَّمس ثمَّ قال: (وما شأنكِ بثلجي، بأشجاري، هي ملكي ولا يحقُّ لكِ النظر إليها؟!)..
استاءت الشمسُ من هذا الكلام وصرخت: (بل هي ملكٌ للجميع، ويحقُّ للبشر جميعاً وللحيوانات وللحشرات وللأشياء كلّها التمتّع بالثلوج والأشجار)…
صرخ الجبل: (أنت مجنونة، حمقاء، من يقترب منّي سأحطم رأسهُ بصخوري هذه)…
صمتت الشمس قليلاً، ثمَّ ابتسمت وقالت: (إذن سأريك ما سأفعل بقبعتك)…
ويقيت الشمس بعد ذلك مشرقة ترسلُ أشعتها الدافئة طوال الربيع، فذابت الثلوج وأصبح رأس الجبل عارياً، وعندئذٍ صرخ الجبل: (أيتها الشمس، أرجوك خففي حرارتك فقد حرقتْ رأسي وكادتْ أشجاري تموت عطشاً)…
وقالت: (سأميتها لأنك مغرور ومتكبر)…
وقال: (أرجوك لا تفعلي، وإني أعدكَ أن لا أعود لغروري وسأسمح لجميع المخلوقات بالتمتع والاستفادة من الأِشجار ومن كلِّ ما أملك)…
ضحكت الشَّمس وهي تهمسُ قائلةً: (الآن أصبحتَ تستأهلُ هذا الجمال وسأعيدُ لك قبّعتك البيضاء مكافأةً منّي لك، إنَّما في الشتاء القادم)..
قالتْ ذلك واقتربتْ منه فاحتضنها، وغابتْ خلف قمَّته، وما إن عاد الشتاء حتى اختفتِ الشمس ولم تَعُدْ تظهرُ إلا قليلاً، بينما بدأتِ الثلوجُ تكسو قمَّةَ الجَبَلِ من جديد..
***
حلب: عام 2008م