يزيد عاشور: طار الحمام
زي بوست:
لم أكن قد تجاوزت السابعة من عمري حينها وأذكر أن الصيف كان حارقاً وجاف كعادة صيف الحسكة.. على عجل أيقظتني أمي وهي تناولني ثياب نظيفة يلا ياعيني يلا بالعجل يزوود كانت سيارة التاكسي تنتظرنا خارج البيت والتي قامت بتسليمنا للبوسطة التي لم نعرفها الا بأسم توزوطو سيارة أمريكية على ما أذكر منتفحة كبيرة الحجم غالبا تعمل على نظام ستة سلندر وثمانية لقلة من فئتها يقوم السوري بعد أن يُدخل عليها تعديلات في كراجات الأرمن بسلخها من طبقتها البرجوزاية بعد اضافة كراس جديدة وشرشحتها باالكثيرمن الشناشيل وصور سيف علي ذو الرأسين والمرايا الكثير من المرايا
سيارة سوداء كبيرة الحجم عادة ما تُسمعك حين تمشي أصوات على سبيل بررررج ترق بم بخ فتفهم أنها توزوطو التي تختلف عن كل السيارات
انطلقت تأكل الطريق الضيق صوب ديرالزور الذي تعرف كل شبر فيه وتعرف عجلاتها متى تخفف سرعتها ومتى تُطلق لها العنان ..
الحر والأنفاس وروائح الأفواه والعرق كما لو أن كل ذلك لم يكفي فزاد الركاب طين القهر بلة بسجائرهم حتى وصلنا الحاجز الأمني فعرفنا أن دير الزور على الأبواب بتكاسل يقترب منا العسكري وقد أنهكته شمس ديرالزور وبارودة الكلاشينكوف المعلقة على كتفه:
منين ؟ ااا أي ….وين ؟ ااااأي اممم الهويات !
لم نكن نعرف حينها لهجة الساحل التي لم تكن منتشرة أنذاك لا نفهم الا لهجة الدير والجزيرة لا حلبي ولا حمصي ولا حموي فكل اللهجات الأخرى بالنسبة لنا كانت شامية …
وصلنا دير الزور ولم تكد التوزطو تتوقف أمام باب معدني في زقاق مهجور حتى سارعت أمي بالنزول وهي تصرخ يا وييييييييلي يابو فاررررروق ياويلي فجاء الرد لجوقة من النواحات خلف الباب يا وييييييليييييي يا ويلي
شعرت بالخوف حاولت أن أتشبث بعباءة أمي السوداء بكلتا يدي لم تكترث أمي حاولت ثانية بكل اصابعي ولكنها لم تلتفت ومضت مسرعة الى باحة البيت الترابية لتأخذ مكانها في حلقة النسوة وتشاركهن النواح وقد تربعن الأرض ليشكلن دائرة سوداء كما لو أنه طقس وثني
بأكفهن يضربن التراب ويرفعنه لرؤوسهن العارية تارة بعد أن كشفت شعورهن المشعثة ويضربن صدورهن تارة
لاعاش عمري يا قلبي …يا ويلي عليك ياأبو فارووووووق .. ومنهن من أخذهن الحماس أكثر فمزقن بعض ثيابهن لينلن استحسان بقية النسوة
حاولت الهروب من حصار الخوف فصرت أتفتل في أرجاء البيت محاولاً اكتشاف أسرار هذا الوكر الماسوني خاصة وأن أحداً لم يكترث لأمري
على الطريق أمام البيت كانت هناك خيمة سوداء كبيرة جداً مصنوعة على الأغلب من شعر الماعز مُقلمة بخطوط بيضاء منحتها شيء من القداسة والهيبة بداخلها رجال كُثر وكلهم يدخنون السجائر وبلا مبالاة يتبادلون الأحاديث وهناك من يوزع عليهم فناجين القهوة المرة ولم يكن أحد منهم – مثل النساء – يبكي ..كانوا يتحدثون مع بعضهم بهدوء حتى أني رأيت أحدهم يضحك .. نعم كان يضحك ولكنها لم تكن تلك الضحكة الفاجرة التي تعودت سماعها من الكبار هاااااااااع هع هع كح كح قهقهقهقه ويصفق كفاً بكف
كانت ضحكة خفيفة وقورة لم يصدر عنها سوى صوت خفيف هااع هع هع هه ومالبث صاحبها أن زّم فمه ..
لم أكن أعرف مالذي سأفعله وحدي خاصة وأنني بدأت أشعر بالجوع ولم تسألني أمي ان كنت جائعاً وكل ماقالته لي قبيل وصولنا أن كل من ستراه في ديرالزور هم أهلك وعشيرتك
في تلك الأثناء شممت رائحة كباب أقتفيت أثار الرائحة حتى قادتني الى غرفة متوسطة الحجم وكان هناك أمرأة بعيون لئيمة ورجلان معها وهناك من يُدخل أكياس الرز والطحين وعلب السمنة والسكر وأحد الرجلين كان يكتب على ورقة تلك الأسماء الملصوقة على كل كيس أو علبة ومن ثم لم تصدق عيناي ما رأيته أوعية كبيرة نسميها المغرف مليئة بالكباب !…كباب كباب حقيقي يشبه الكباب الذي كان البدو القادمون من قراهم يأكلونه بوحشية على أبواب المطاعم في الحسكة .. هؤلاء البدو الذين لم يكونوا يستخدمون أسنانهم لمضغ الكباب فما أن يضع قطعة الكباب في فمه حتى تختفي ليُصدر أصوات غريبة بعدها مثل عاااع حااااح ححححح غير مكترثين بردود فعل المارة
مع تلك الروائح المثيرة بدأت أشعر بجوع حقيقي وتلك الحقيرة بعينيها الصغيرتين وشكلها اللئيم رمقتني بنظرة عدائية وأدارت وجهها بقهر تمتمت حينها انعن ابوكي على أبو قرايبي على أبو هاليوم النحس يا كلبة يا حمارة
سيدة حقودة حيوانة لم تفكر أن تعطيني حتى لو قطعة من هذا الكباب الكثيرالمستلقي باستسلام في المغرف بانتظار مُغتصبيه
كنز حقيقي من الكباب يكفي لاطعام كل أطفال ديرالزور ولسوف يقضون عليه هؤلاء السفلة من أقربائي بحجة الله يرحمك يا أبو فاروووق
بانكسار لم يكن أمامي الا ترك المكان جائع جائع وهكذا منظر لا يعني سوى العذاب قررت أن أصعد درج البيت علني أنسى أكوام الكباب الحقيرة ولا أسمع تلك الأصوات المرعبة للنساء
على السطح سأشاهد ديرالزور ومن يدري ربما سأرى الفرات
مجموعة من صناديق التفاح الخشبية الفارغة رُصفت بانتظام فوق السطح على قفاها أقتربت من أحد تلك الصناديق فسمعت صوت همهمات غريبة دفعني فضولي لأن أقلب الصندوق من مكانه فطار على الفور زوج حمام
فهمت أن أحدهم قد سجن الحمام بتلك الصناديق فقلبتها صندوق تلو الأخرومن كل صندوق يطير زوج حمام
نزلت وأنا أرتجف من الخوف حين سمعت بعض الوشوشات ما بين الرجال والنسوة حتى قال أحدهم بصوت غاضب يول منو طير حمام المرحوم ؟
يول الحمام طارالحمام منو هالقواد العمل هالعملة ؟ يول والله لا اشلخو بالنص
لم أنبس ببنت شفة كنت فقط أرتعد وأنا أبحث عن أمي
عرفتها من بين النسوة جلست قربها محاولاً استعادة أنفاسي حينها شعرت بالسكينة والرضا
نظرت الى السماء تلاشت أصوات الرجل الغاضب .. تلاشى نواح السيدات
صمت جليل وابتسامتي وأنا أشاهد الحمام يطير بفرح كما لو أن روح المرحوم تطير مع الحمام