عبد الغني حمادة: يوميات كورونا (3) عطسة تاريخية

عبد الغني حمادة: يوميات كورونا (3) عطسة تاريخية

زي بوست:

هناك في الهواء الطلق، تستطيع أن تسعل وتعطس بكامل حريتك، تفتح شدقيك على آخر المدى، تخرج العطسة من قاع رئتيك، ثم تطلقها في الفضاء، تملأ الجو بالرذاذ دون نظرات الاستهجان وتعابير الاستغراب والدهشة ممن حواليك.
يا خسارة، لقد أصبحت العطسة حلما!!.
فمنذ أن هجم فيروس الكورونا، ذلك المخلوق الذي لا يرى إلا بعد تكبيره مئات آلاف المرات بالمجاهر الإلكترونية، ومنذ أن صدرت تعليمات صارمة بضرورة تطبيق حجر صحي في البيوت لم تهنأ بعطسة ذات قيمة في البيت، وما تلك العطسة التي أطلقتها في الحمام إلا( ميكروعطسة )، لا تصنيف لها بين العطسات التي كان الحاضرون يتناقلونها بإعجاب وغبطة، وربما تصل إلى الحسد.
حتى أنك عندما عطستها في الحمام، حاولت كبحها قدر استطاعتك، ومع ذلك فقد دخلت عليك زوجتك، وقد ظننت مغبوطا أنها ستفرك ظهرك، إلا أنها تعاملت معك كطاعون سيفتك بأهل البيت.
زجرتك بنظرات تقطر سما و( سارس، وسارين وكورونا )، جعلتك ترتدي نصف ثيابك وتخرج مذموما مدحورا مطرودا من رحمتها.
ثم طهرت الحمام بكل أنواع المنظفات من كلور وصابون وشامبو وكحول.
أنت لديك حساسية مفرطة من الروائح، وأي رائحة نفاذة تصل إلى أنفك تجبرك على عطسات متتالية تخرج من أخمص قدميك، لتنطلق من منخريك رشا ودراكا تجعل من بقربك يستعيذ بالله من جلجلة عطاسك.
رحم الله تلك الأيام الجميلة، عندما كان جميع الحاضرين يقولون لك:
– يرحمك الله يا حجي.
– أثابني وأثابكم الله، وغفر لي ولكم، وهداني وإياكم إلى سواء السبيل.
تتحسر على تلك الأيام الخالية، وتتذكر جدتك التي تقول:
– العطاس فرج قريب.
ولا تنسى أبدا خطبة الجمعة العصماء عن تشميت العاطس لأخيك المسلم.
كان ذلك في الزمن الذهبي للعطاس، أيام كان الناس يفتخرون بنشوة العطاس ورنته المموسقة.
تغيرت الموازين الآن يا صديقي، فأصبح العطاس منكر في عصر الكورونا.
تبا لك يا كورونا، تبا للصين، وتبا لخفافيشها!!.
اشتياقك لعطسة تهز أركانك، والاستمتاع بإيقاعها وموسيقاها، جعلك تفكر بخرق ذلك الحجر اللعين، والذي بدأ منذ أسبوع، ولا أحد يعرف متى ينتهي.
أقفلت هاتفك، ارتديت البيجاما الرياضية والكمامة والكفوف، تاملت شكلك أمام المرآة، كم أصبحت تشبه رجال العصابات!!..
أطلقت ابتسامة ساخرة من منظرك بهذه الكمامة، ثم تركت زوجتك والأولاد نائمين، وتسللت خلسة إلى حيث لا تدري.
كان الشارع الخلفي فارغا إلا من قطتين تموءان على سياج المدرسة الفارغة تماما من طلابها، فيما كان كلب ينبش في حاوية النفايات بكل حرية واطمئنان دون أن يضايقه أو يمنعه أحد.
محال المدينة مغلقة، والجوامع خاوية من المصلين، السيارات متوقفة.
مطاعم الجامعة ومقاهيها خلت من الرواد. فأضحت بلا روح، ولا روائح تجلب العطاس من حيث تدري ولا تدري.
رحم الله أيام كانت رائحة الشواء والشاورما والبيتزا، ودخان المناقل، وروائح القهوة والشاي تملأ المكان، وتجعلك تطلق العطسة تلو العطسة كرصاص البندقية، ثم تهز رأسك طربا وغبطة.
الحديقة القريبة من الجامعة ساكنة كالمقابر، وضعت أسلاك وشرائط حمراء على مقاعدها، كانت صامتة بلا أطفال يمرحون ويضحكون، يقفزون على الألعاب الملونة ويتسابقون، غاب الشباب والصبايا عنها، واختفت غمزاتهم ولمزاتهم وابتساماتهم، رحم الله تلك الأيام الخالية حين كنت تعطس من رائحة عطورهم، تعطس تلك العطسة التاريخية التي ترتج لها أركان الحديقة، فتسقط بتلات الورود من دويها وقعقعتها.
ايه، أيام العز مضت وولت إلى غير رجعة على ما يبدو حتى الآن.
أيام كان العطاس نعمة لا نقمة.
ابتعد العجائز المتقاعدون عن حنايا تلك الحديقة النظيفة وكورنيشها الأنيق.
المدينة كلها نائمة، ساكنة إلا من دوريات شرطة تطلق صافراتها بين حين وآخر، بينما يعكر صفو الجو زعيق سيارات الإسعاف بزماميرها المزعجة.
البراعم زينت الأشجار بألوانها البيضاء والحمراء والصفراء، وتزركشت الأحواض بالورود المتفتحة حديثا بشتى الأنواع والألوان.
جاءتك الفرصة أخيرا، تقترب من شجرة المشمش، رائحتها العطرة تسدد سهامها إلى أنفك.
تحس بغليان في خياشيمك، تنزع الكمامة عن أنفك، تلتفت حولك، لا أحد غيرك في الحديقة، جسمك كله، يغلي ويفور، تمتلئ رئتاك، تنتفخ، تأخذ نفسا عميقا، وتطلقها عطسة تاريخية ، خارقة حارقة مدمرة مزمجرة.
– هاهااتشووووووووو…
تردد البنايات الصدى:
– تشووووو…
وما هي إلا لحظات إلا وقد طوقتك سيارات الشرطة، فيما كان زمور سيارة الإسعاف يلعلع في الجو مقتربا بسرعة نحو المكان….

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s