وافي بيرم: المولود خوف
زي بوست:
نحن نولد كائنات خائفة ومرتعبة، كسمكة عضت الطعم وانغرزت الصنارة في أحد فكيها، نخرج جميعاً من هذه البيئة المقرفة، محيط من العتمة ومغمورين بالسوائل اللزجة والمخاطية والدماء المتجلطة.
نخرج من المكان الدافئ المريح، بالصراخ والبكاء، معترضين على سلبنا حياتنا المرفهة، ونقلنا إلى عالم ممتلئ بالخوف والرعب.
عند لحظة الخروج ستجد حولك كائنات ضخمة ماردة تبسط شفاهها بشكل غريب ومريب، ستعرف فيما بعد أنها كانت ضحكات وابتسامات، وهي ما يتشكل للمرء بعد أن يصادف شيئاً جميلاً يدعو للسرور، إلا أنك تعلم تماماً مقدار الرعب الذي يتلبسك في تلك اللحظات.
تبدأ أيدِ ضخمة كأفرع الأشجار بتلقفك مراراً وتكراراً، وأنت غارق في الصرخات والاستغاثة ملء حلقك، حتى ينتهي بك المطاف وفي فمك حلمة سوداء متيبسة، تدرّ لك سائلاً أبيض حلو المذاق، وعليك امتصاصه بشكل متواتر ليستمر في إفرازاته، فتأتيك أول ذكرى حزينة بأنه لم يكن عليك القيام بأي شيء ولم يكن يشغل بالك المذاقات والروائح وغيرها، كل شيء كان آمناً ومستقراً ومنطقياً.
مع الوقت ستلاحظ أنه كلما علا صراخك وبكاؤك سيلقمونك هذه الحلمة السوداء العاصرة لذلك السائل، ومع الوقت ستكتشف بعد السنة أو السنتين ، ومن خلال تجاربك الشاقة، أنهم يحاولون خداعك بهذه الابتسامات والضحكات الكاذبة، وبأنهم أخرجوك من مكانك المعزول الآمن إلى ما يزعمون أنها الحياة.
وحينها ستجد حلاً للتغلب على خوفك من هذه الأيادي الضخمة والابتسامات الباردة التي تجعلك تتقيأ، بأن تتبع سياسة الابتسام معهم، ومجاراتهم فيما يتصرفون، تضحك عندما يضحكون وتفزع عند الفزع وتبتسم قبل النوم، وهكذا ستتخلص من امتداد الأذرع إليك كجذور أشجار معمرة دبت فيها الحياة والحركة.
ثم ستجد نفسك أنه صار لديك العديد من التقنيات لدرء الخطر، من فرقعة اللسان والبسبسة والمناغاة والصفير وما إلى هنالك، لتعود إلى سكونك بعيداً عن هذه الأطراف الغريبة، وكل ما يكون سعيك هو عودتك لهذا السكون.
بهذا الخداع البريء سيظنون أنك بدأت تألفهم، وعن قريب سيتبدد خوفك منهم، وتصبح جزءاً من منظومتهم المرعبة، بلا خوف كما هم يعتقدون.
إلا أنهم ما أن يكتشفوا نمو جسدك قليلاً وتصبح قادراً على الحركة بمفردك، حتى تبدأ رحلتك الغامضة، عندما يقذفون بك في مكان مليء بكائنات مثلك تماماً كائنات خائفة مترقبة ومتحفزة، تبدو عليها آثار سوائل مخاطية.
ستتعرف على ألم الخوف الجسدي المتركز في المعدة كل صباح باكر قبل الوصول إلى هذا المكان المرعب، تحاول جاهداً التهرب من هذه المهمة، بالصراخ والبكاء من خلال خبرتك السابقة، أو الشكوى من الألم في المعدة ولكن عبثاً تبوء كل المحاولات بالفشل، تعرف هذا من خلال اختفاء الضحكات والابتسامات التي كانت تظهر عليهم، وحينها تعرف تماماً الخداع الذي تعرضت له، ويتحولون إلى حقيقتهم المفزعة، وتبدأ هذه الأيادة بعملها الطبيعي في الضرب وتحفيز الألم الجسدي في كل مكان من جسدك، هذا ما كنت تعرف يقيناً بحتمية مواجهته، في لحظاتك الأولى من الصراخ والبكاء.
تمضي أكثر وقتك مجبراً بين هذه الكائنات الصغيرة الصاخبة، وأنت ترى في عيون الجميع الخوف المرتسم والمتحفز لأصغر خطر ممكن أن يواجهونه، مع علمك الداخلي بألم معدتهم ونظراتهم المقنعة بتصرفات غير مفهومة وضحكات حادة، وردود أفعال غير متوقعة.
تنظرون إلى بعضكم شذراً وكل يضمر داخله الأذى والتخطيط لكيفية القضاء على الآخرين جميعاً، أو كحد أدنى السيطرة عليهم لدرء أي خطر محتمل.
في هذه الفترة ستنقسمون إلى قسمين، قسم لديه الخوف الذي جاء معه والقسم الآخر يحمل خوفاً إضافياً من مجتمعه الذي ينتظره خارج هذه الأسوار.
أصحاب الخوف الواحد سيصاحبهم مع الكثير من العواقب والمطبات حتى آخر حياتهم، أما الآخرين، ستكون حياتهم أخف وطأة، نفسياً على الأقل، فبداخل كل واحد منهم صراع بين خوفين، وفي كل مرة سينتصر خوف على آخر، مما سيعطيهم دفعة إيجابية مزيفة بالإحساس بالنصر على الخوف، وتكون حياتهم بمتع مؤقتة وأحداث تافهة، في حين أن أصحاب الخوف الواحد يعيشون داخل خوف واحد مسيطر تماماً.
تنتهي من التحديات في هذه المرحلة، وتدخل في هوة مرحلة التصدي لكل هذا العالم مع إحساسك المستمر بتضخم أطرافك وأصابعك وأعضائك التناسلية، مما يجعلك تعتقد لبرهة أنك أصبحت أكثر انتماء لهذا العالم المخيف.
هنا تصبح أكثر إصراراً وبعدائية واضحة على إثبات نفسك ككائن لم يقتنع لحظة بالمجيء إلى هنا، والتصدي لكل ما يعيقك في إثبات ضرورة عودتك إلى كهفك وعزلتك وحياتك الحقيقية التي كنت تعيشها، وتصبح أيور الرجال أكثر صلابة، وفروج النساء أكثر مرونة وإشراقاً، في دعوة واضحة للعودة الحتمية إلى الحالة الأولى الطبيعية.
ومن سخرية القدر أنه سيكون بإمكانك إدخال جزء واحد منك إلى ذاك العالم، أو استقبال جزء واحد فقط في الحالة المقابلة، مما يعطي السكينة للطرفين، وتشكيل الانطباع الحقيقي للحياة السرمدية، ولكن في لحظات فقط.
صحيح أن جزءاً صغيراً منك هو ما استطاع الوصول إلى فردوسك المنشود، ومع علمك أنها دقائق أو ساعات على أكثر تقدير، بيد أن هذه الدقائق تخفي من حولك كل المخاوف التي تواجهها، وتختفي الأصابع والأيادي الضخمة، وتختفي الضحكات والابتسامات الماكرة، ويتبخر من حولك كل شيء وكل الآلام المعوية والنفسية لتتكور بعدها، وكأنك عالق في اللازمكان، في كهفك الساكن.
مع يقينك من الضريبة المترتبة على لحظات هذه العودة الجزئية، إلا أن قوة الخوف المتزايد ونموه يوماً بعد يوم، يجعلك تتناسى وتغض الطرف عن عواقب ما أنت بصدد مواجهته، وستقترف ما اقترفه أسلافك في استحضار كائن آخر، جديد وصغير ممتلئ بالخوف والدماء والسوائل المخاطية، ومع الوقت ستتحول أنت إلى كائن مارد ضخم، يسبب الرعب وينشره في كل مكان حوله، بنفس الطريقة والأسلوب التي سببت الرعب لك.
ما الذي يمنعك بأن تستقبل هذا الكائن بالقليل من الشفقة والتضامن معه في مصابه، فأنت تعلمت أن التضامن يكون بنفس نوع العمل، فالذي يبكي لماذا لا تبكي معه ممكن أن يؤدي إلى هدوئه وتخدير مخاوفه، ما المضحك في بكاء وصراخ هذا الكائن الأعزل المخيف؟
وتستمر الحلقة المفرغة من حولك وأنت تصارع ألم المعدة والتوجس والترقب، حتى تترك شيئاً، قليل فقط من يلاحظه من خلفك، تتركه كعلامة قبل ترك جثتك، وهي ابتسامة، ابتسامة ليست كاذبة ولا لبس فيها ولا مكر، ابتسامة من أفلت خيط الصنارة من فمه.