عبد الغني حمادة: عندما كان هتلر مراهقا

عبد الغني حمادة: عندما كان هتلر مراهقا

زي بوست:

كم كنت أكره هذا الطالب!!..
لا بد أنه وشى بي للمدير حين لمحني أقترب من زميلتنا الوحيدة في الصف السادس. الحقيقة أنا كنت أتقصد أن أقف وراءها عندما يرن الجرس للفرصة، وألامس جسدها.
“جلنار” كانت أكبر طلاب المدرسة، من يراها من بعيد يخالها معلمة لا تلميذة، فصدرها الناهد نبتت فيه رمانتان لفانتان، بل رقدت يمامتان واستكانتا على صدرها.
“قاسم” ضبطني أكثر من مرة وأنا أفتعل الزحام لألتصق بتكويراتها ومنحنيات جسدها اللدن، وأشاغب بأصابعي بخصلات شعرها البندقي الهاربة من تحت منديلها الزهري.
قاسم كان كلما رآني، يغمزني بلؤم بعينه اليسرى، وكأنه يقول لي:
– أنا (شايفك بس عايفك).
قاسم لئيم جدا، لا يرحم من يقع بين يديه، في إحدى المرات، طارد كلبا في الخرابات لمدة ساعتين أو أكثر، لأنه نبح على جلنار قرب المقبرة، ولم يتركه إلا بعد أن قطع أذنيه.
صوت المستخدم أخافني وهو يطلب من معلمنا البدين:
– المدير يريد مسعود.
في تلك اللحظة، تمنيت أن تنشق الأرض، وتبتلعني، نظرت في وجه قاسم، فأدار وجهه إلى الحائط، وراح ينكش منخاريه بسبابته، وكأنه لم يسمع بأنني مطلوب للإدارة.
أما جلنار، فقد تشاغلت بكتبها ودفاترها وأزرار قميصها، ويبدو أنها لم تكترث كثيرا بما قد يحصل لي، وهذا ما عبرت عنه عيون باقي الطلاب الذين تعاطفوا معي، لا لشيء، فقط لأن المدير لا يطلب طالبا إلا لعقوبة لم ينزل الله بها من سلطان.
لعنة الله على قاسم المفسد، كل الحق عليه، وعلى جلنار، لو أنها صدتني من أول اقتراب منها، لابتعدت عن شقاوتي معها، ولما ورطت نفسي بعقوبة لا يحتملها بغل جدي الشموس أبو غرة.
ماذا أفعل مع مدير أقل عقوبة لديه، “الفلق”، عشرون ضربة بالخيزرانة أو أكثر على القدمين المبللتين بالماء والملح.
يا إلهي، كم كان قاسيا!!.
كان الطلاب يطلقون عليه لقب، هتلر، لسببين، لقسوته أولا، ولشكل شاربيه ثانيا.
يا لك من وغد يا قاسم!!..
نقرت باب الإدارة بقفا كفي وأنا أرتجف:
– تفضل، ادخل.
خلته ضبعا شرسا يجلس خلف الطاولة الكبيرة، وقد توزعت عليها السجلات والكراسات ومجسم للكرة الأرضية، ومقلمة أنيقة وعلب طباشير، وفنجان القهوة أمام المدير المشغول بتسريحة شعره.
ولأبعد الخوف والاضطراب عني، بدأت أقرأ ما أحفظه من القرآن.
صوته قطع قراءتي:
– هل تعرف إعدادية البنات؟!!.
– نعم، نعم أستاذ، أعرفها.
ناولني ظرف رسالة تفوح منه رائحة عطر من عالم آخر ، لا يشبه عطر أبي.
وهو يحك مفرق شعره بخنصره قال بلهجة آمرة:
– أعط هذه الرسالة للمديرة، هل تعرفها؟!!.
– نعم أستاذ أعرفها جيدا، فمنذ أسبوع رأيتكما معا على باب المدرسة صباحا.
هز رأسه، وتابع:
– انتظرها حتى تعطيك الرد، مفهوم!!..
حمل الملح نزل عن صدري، لعنت الشيطان الذي وسوس لي بأن زميلي ” قاسم” قد وشى بي للمدير بأنني أتحارش ” جلنار”.
من أين تأتي هؤلاء المديرات بهذه العطور؟!.
لا بد أنها من الجنة، تمنيت لو أنها لم تنته من كتابة رد الرسالة لهذه اللحظة.
رغم أن الجو لم يكن حارا، فقد كان زرا قميصها مفتوحان، وكاد منقارا حمامتي صدرها يخترقان القميص، والأكثر دهشة وغرابة وإثارة، تلك التنورة الشفافة الهفهافة والتي بالكاد تستر ركبتيها.
يارب السموات والأرض، من أي طينة تخلق هكذا مديرات!!..
قبل أن تغلف الرسالة، أخرجت من محفظتها قلم أحمر الشفاه، ورسمت قلبي حب متعانقين، وبخت الرسالة بعطر ينعش صماصيم القلب، ثم حذرتني:
– إياك أن تفتحها في الطريق!.
ليتها تعلم بأنني لا أجرؤ على شمها، وليس على فتحها. فعندها هتلر المدير سيشوي نعمتي، ويسلخ جلدي.
مهد لي المدير طريقا كنت أحسبه وعرا، فغدا سأعترف لجلنار بحبي الشديد لها، لأقطع الطريق على قاسم وأشباهه، ولأريحه من مراقبته وغمزه لي.
فها هو هتلر بجلاله وقدره يحب ويعشق دون رادع أو إحراج.
ليس هذا فحسب، فسأطلب علبة عطر وقلم حمرة للشفاه من أختي الكبرى المتزوجة حديثا، لأقدمهما هدية لجلناري الحبيبة، وليس مهما فارق العمر بيننا، فأنا لست مستعجلا على الزواج، ولا بأس أن ننتظر بضع سنوات لأصبح بعمر أبي مثلا.
ضحكت أختي كثيرا، واعتبرت ما قلته لها ليس إلا طرفة أو مزاحا، لكنها رضخت أخيرا، ولبت طلبي.
في الصباح كنت أنتظر بشوق كبير جلنار على باب المدرسة.
طال انتظاري، ولم تحضر، شعرت أن قلبي انشطر قسمين.
مر من أمامي قاسم وهو يبتسم، ويرمز بعينه اليسرى، وكأنه يعرف ما أفكر به:
– ألم تدر يا مسعود؟!!.
نظرت إليه بانكسار:
– (أومأت له برأسي)، لا …
قال، وهو ينكش منخاره بسبابته:
– أعرف أنك تنتظر جلنار، لكن لا تتعب نفسك بعد اليوم.
فغرت فاهي:
– ما الأمر يا قاسم؟!.
– جلنار انخطبت ليلة أمس.
اللعنة عليك يا قاسم، وعلى كل هتلر في العالم.

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s