مها حسن: اليوم قبل الأخير للعزل الصحي
زي بوست:
أضع سماعة الهاتف في أذني، وأخرج صوب الحياة.
صوتك يتسرب كهواء موسيقي، أو كموسيقا من هواء، يتغلغل في جسدي ويسير في دمي، حتى أصابع قدمي. أنتفض فجأة، حين تنتهي الأغنية ويحل الفراغ، فتتساقط نوتاتك من جسمي، وتنتشر في المدينة. أتوقع أن أهل المدينة سيفيقون في الصباح، منشدين أغانيك التي لن يفهموا كلماتها، لكنهم، مثلي، سيثملون، واقعين تحت أثر سحرك.
أتجوّل في مدينتي وألتقط الصور، مصحوبة بصوتك، كأنني أعرّف الأمكنة عليك، أهيء لها قدومك..
أمر أمام كشك بيع السجائر.. توقفت عن التدخين منذ قرابة ستة أشهر ، إلا أربعة أيام تماماً، أقف أمام البائعة، أقول لها أنني محتارة في أي ماركة أقتني، لأنها المرة الأولى لي منذ شهور.
معاودة السير، أنتبه أنني دون قداحة. أتسلق الشوارع الحادة التي أحبها، أرى شاباً يدخن جالساً على درج بيته، لا يرتدي سوى “بوكسر”.. نعم، هو حر، باب بيته مفتوح، وشارع صغير يقلّ فيه المارة. الشاب غارق في أفكاره، أقول لنفسي أن سحر صوتك الذي أنشره في المدينة، قد اخترق قلبه، وجعله يحنّ لحبيبته البعيدة.
من الطرف المقابل، دون أن أقطع الرصيف، أقول له مشيرة بإبهامي، نار.
يمدّ قداحته الصفراء، أقترب منه وألتقطها، أشعل سيجارتي، وبينما أعيد له القداحة، ينظر إلي بحزن شفيف، كأنه يسألني: أنت التي ترسلين هذا الشجن ؟ أقول له ميرسي، بهزة رأس أي نعم. أنا مصدر السحر، أنا المسحورة، أرمي سحري على أهالي المدينة.
بعد شوارع أخرى، أجلس على حافة عالية، حيث يظهر خلفي وسط المدينة ، يناديني شاب من بعيد : تعالي ألتقط لك الصور.
من بعيد أشكره، لكنه يصرّ، ملوحاً بيده: تعالي، تعالي..
J’arrive
أقول له، وقبل أن أصل قبالته، ألقي التحية، فيقول لي:
انظري ما أجمل ما يحدث هنا.. هل تتخيلين أنني سأضايقك..
أدخل في الموضوع مباشرة، كعادتي في كسر المقدمات:
خذ هاتفي .. أريد صورا جميلة..
يقفز نازلاً عن الحافة، يترك علبة البيرة وسجائره وسترته، ويلتقط لي الصور، كصديق قديم.
أشكره وأنا أتناول هاتفي للذهاب، يستوقفني:
لن أضايقك، ابقي معي قليلاً.. أحتاج التحدث إليك!
هذه طريقة غير مألوفة للتقرب من النساء، هو يشعر بالوحدة بسبب العزل الصحي غالباً.. أجيبه بحسم:
حين أقول لا، يعني لا.
يقوم بحركة استسلام بيديه.. ويقول: أنا هنا كل يوم، تعالي غداً، ينظر إلى ساعة يده، نعم، في مثل هذه الساعة، سأكون بانتظارك. إلى اللقاء صديقتي.. نعم، يقول صديقتي.
أتركه راكضة، سعيدة بتحرري من رجل ثمل ووحيد، كدت أشفق عليه، بالبقاء معه أكثر، لولا أن صوتك يرن في دمي، فأحنّ لسماعك…
قبل أن أصل إلى البيت، ماشية وسط الشارع، تخرج أمامي سيارة تسير في اتجاه صحيح، كنت أنا في المكان الخطأ. يتوقف السائق، أقوم بالحركة ذاتها التي قام بها الشاب، أفتح ذراعي استسلاماً وأنا أضحك، فيضحك السائق ولسان حاله يقول : هذه المرأة الغريبة الأطوار، التي تسير وسط الشارع، وتزرع الموسيقا الكردية، عليّ تفهّم وضعها.
كيف عرف أنك تغني بالكردية؟ لا أعرف.. لكن سيدة مسنة تقول لي:
ليس من المناسب أن يموت أحدنا في حادث سير في مثل هذا الطقس.
تحاول المرأة كسر عزلتها بالتحدث إلي، أوقف صوتك ، أنزع سماعة أذني، وأجيبها بعبارات مرحة : كنت أختبر حرية السير وسط الشارع، حيث حركة المرور بطيئة.. تتفق معي : صحيح، السيارات قليلة، والحياة جميلة..
أعتقد أنها نجت من سحرك.. فهي تبدو سعيدة، لم يمسّها شجنك، أو أنها، مثل أمك التي اعتادت غيابك، لديها القوة لمقاومة أثرك.
قبل أن أصل إلى البيت، أتلفّت حولي متأكدة، أنني طليت جدران المدينة، وأشجارها، والعشب، والشوارع، ووجوه البشر، بصوتك…
الليلة، ستصلني رسائل كثيرة، يطلبون مني ترجمة كلماتك إلى الفرنسية.
جهّز نفسك الليلة، لدينا عمل كثير، فأنا شريكتك الآن، في مسّ العالم، قلبه، سحره.