عبد الغني حمادة: صهر الدولة

عبد الغني حمادة: صهر الدولة

زي بوست:

يتكلم عن خدمته العسكرية، كما يتغزل عاشق هائم متيم بحبيبته، يغمض عينيه ويتخيل دبابته حورية لم يمسسها إنسي ولا جني، طاهرة مطهرة( ما باس تمها غير أمها )..
مهاوش، ابن العم الغالي، جحش البكالوريا كما يسميه أبناء عشيرتنا، كونه تقدم لامتحان الثانوية العامة للفرع الأدبي ثلاث عشرة مرة ولم ينجح فيها، وفي كل سنة يرسب في كل المواد إلا بمادتي الديانة والتاريخ فكان يحصل درجة الحد الأدنى للنجاح…
أمه كانت تتباهى بأن مهاوش متدين يخاف الله، ويحفظ تاريخ بلادنا…
بعد رسوبه مرتين في شهادة البكالوريا، انتهت فرص التأجيل عن الخدمة العسكرية، فكان لا بد من أن يذهب لأداء الخدمة الإلزامية برتبة عريف.
مهاوش عاش قصة حب عنيفة مع شعيلة، ابنة الرفيق الماركسي( أبو نضال )…
يقول ابن العم، بأنها كانت سببا في فشله، لأنها دائما تعطله عن الدراسة:
– يا أخي، لا تغيب شعيلة عن خيالي أبدا، كلما فتحت الكتاب أرى وجهها مرسوما علي صفحاته، وكلما سمعت أغنية راقصة، اتصورها ترقص أمامي، وتغمزني بطرف عينها كما تفعل سميرة توفيق في أغانيها.
أم مهاوش، تقولها بكل صراحة أينما جلست:
– شعيلة جننت ابني، أخذت عقله، وياليتها تستحق هذا العشق، معصمصة، وفراكيحها نابقة من رجليها مثل قرون العنزة.
كيف تعلق مهاوش بها وهي بهذا الكم من القبح والبشاعة، لا أحد يعلم سواه؟!!…
لكن لمهاوش رأي آخر، يتقاطع مع رأي قيس بن الملوح:
– إني رأيت ما لم تروه من شعيلة!!..
حاول مهاوش أن يقنع أمه بالخطبة، طامعا بوعد الرفيق( أبو نضال ):
– سأدبر لك وظيفة في الدولة، وسأرخص لك مسدسا، وستنال شهادة البكالوريا، إن أصبحت صهري!!..
لم تسعه الدنيا، فغدا سيصبح موظفا مهما في الدولة، سيرتدي الطقم وربطة العنق والعطر، وسيغدق عليه المراجعون الهدايا، كيف لا وهو صهر الرفيق المقرب من القيادة ( الحكيمة )…
أمه رفضت رفضا قاطعا، وعرفت كيف تثنيه عن هذا الحب، وتبعده عن تلك الوقعة السوداء المسخمة، عن جورة القاذورات تلك، كما تقول أمه..
شعيلة، خلقت في الوقت الضائع على مايبدو، ومع أنها كانت تستعمل الكثير من أدوات التجميل، فقد كانت تزداد قبحا ونفورا…
سمراء فاحمة، تدهن وجهها بالمساحيق المبيضة، وترسم ظلا أزرقا لجفونها، وتضع الحمرة الزهرية على شفتيها المقلوبتين إلى داخل فمها، فتظهر وكأنها بلا شفاه.
المبيض يجعل وجهها وكأنه لامرأة أخرى، من حوار كلسي، فكفاها يفضحان لون بشرتها الغامقة.
وفوق هذا وذاك، فأنفها المفلطح يكاد يغطي نصف وجهها، وزاد نشوز شكلها، ذلك الشعر المظلم الخشن الذي تصبغه باللون الأصفر الذهبي، أما أظفارها فقد كانت تطليهما بالأبيض الفاقع.
يا إلهي !!..
ماذا رأى مهاوش فيها، كيف أسرت قلبه، لا أحد يعلم!!..
– لو شممتم رائحة عطرها، لغيرتم رأيكم فيها!!..
أم مهاوش نجحت وحسمت الأمر:
– سأشتري لك( تراكتور ) إن أطعتني وسمعت كلامي، وتركت ابنة ذلك الذي لا يعرف الله..
ابن العم مهووس بالآليات، روح قلبه حديث السيارات والدبابات مؤخرا، بعد أن انخرط في سلك الجندية…
منذ صغره يهوى لعبة الدراجات والسيارات، وكان ماهرا في تقليد صوت المحركات وهي تقلع( عان، عان، عااااااان … )، ثم يسحج قدمه اليمين عدة مرات، ويطلق زمور الهواء( الفشافش )، وينطلق بسرعة الثعلب، مع زوبعة من الغبار تلاحقه…
رنت أذنه بكلمات أمه…
( تراكتور، يعني سيصبح لدي آلية أخيرا، يا سلام، تراكتور وخلفه تريللا، لتذهب شعيلة إلى الجحيم، التراكتور سيجلب لي مئة شعيلة )…
أم مهاوش وفت بوعدها، واستلم ابن العم مفاتيح التراكتور، وصار كظله أينما ذهب، إلى الدكان، أو زيارة أخته أو قبر أبيه، حتى إلى صلاة الجمعة كان يرافقه تراكتوره الأحمر( فورد سن )..
ولا ينسى أن يمر من أمام بيت شعيلة كلما تذكر رائحة عطرها وألوان ألبستها الداخلية، ويلوح لها بمنديله الأحمر المخطط،  وهو يبتسم.
أوصى أمه:
– إياك أن تعطي التراكتور لأحد، حتى لهذا الفصعون!!..
مات أبو مهاوش منذ عشر سنوات، بمرض القلب، وترك بنتا متزوجة وولدين، مهاوش وصالح الفصعون على رأي مهاوش…
سلم المفاتيح لأمه، والتحق بالخدمة العسكرية في الفرقة السابعة قريبا من دمشق اختصاص دبابات…
في إجازته الأولى، بعد دورة الأغرار، درب شباب وأولاد الحارة النظام المنضم:
– انتبيييييه، استرح، استعد، اح، اتنين، وقووووف، قف…
يمين در، يسار در…
وهكذا كان كل يوم يعطي الدروس بحماس منقطع النظير، ولم ينس أن يأتي إلى الدرس بواسطة التراكتور، وهو يرتدي اللباس العسكري الخاكي…
عندما أنهى دورة الاختصاص، صار يعطي الشباب دروس عن الدبابة( T.62 )..
طولها، عرضها، طول السبطانة، عيار الجف، برجها، الجنزير، وزنها، المدى المجدي، وكل شيء عن ميزاتها الفنية والتعبوية، وأحيانا كان يستغين بالتراكتور لشرح الدرس:
– هناك فارق كبير بين دبابتي وتراكتوري، لكنهما يتفقان بأن كلاهما يسيران على المازوت، وقوة الدفع لديهما من الخلف..
قال له عجوز طاعن في السن:
– أنت تفشي أسرارا عسكرية يا مهاوش.
– لا، لا يا عم، موقع الكتيبة، والرقم العسكري، واسم المعلم، هذه أسرار لا يجب أن نبوح بها…
الرفيق أبو نضال، كان في كل دورة لمجلس الشعب يعدونه بمقعد، وفي اللحظة الأخيرة يعتذرون منه:
– حزبكم صغير، لا يحتمل أن يكون له ممثلان في المجلس، هذه السنة ممثلكم من طرطوس وبعدها اللاذقية، ثم السويداء ثم دمشق ووو…
وهكذا، في كل دورة ينتظر أبو نضال معجزة ليصبح عضوا يمثل حزبه الماركسي في مجلس الشعب…
لكن وبعد الانشقاقات التي أحدثت في صفوف أحزاب( الجبهة الوطنية التقدمية )، أبلغ الرفيق( المناضل ) بوضع اسمه في قائمة الجبهة عن فئة العمال والفلاحين.
نجاح الرفيق أبو نضال وانتقال سكنه إلى العاصمة دمشق، أحدث انقلابا لدى ابن العم.
بعد زيارة قصيرة لأبي نضال ليبارك له بالنجاح، قدمت له الضيافة، والقهوة المرة في قاعة كبيرة، تتصدر حيطانها صور ماركس وستالين ولينين، وفوق الجميع صورة القائد( الملهم ) حافظ أسد، وهو يصافحه يوم أداء القسم…
التفت إليه الرفيق، وسأله:
– كم بقي لك لتتسرح من الجيش؟!!.
وهو يمسح عرقه المتفصد من جبهته:
– شهر وخمسة أيام…
– وظيفتك جاهزة، اعتبر نفسك سائقي ومرافقي الخاص، ما رأيك؟!!..
تابع الرفيق وعوده، فيما كان مهاوش صامتا يستمع ويحلم( سيارة مارسيدس، مسدس، نظارات سود، طقم أسود، قميص أزرق، ربطة عنق حمراء، وعطر فرنسي )
– هل نقرأ الفاتحة عليكما، أنت وشعيلة؟!!..
وهكذا تزوج مهاوش شعيلة، وصار صهرا للرفيق( أبو نضال ) الماركسي!!…

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s