عبد القادر حمود: مجمع نفايات (فصل من روايات بلد)
زي بوست:
خلقه الله ليكون خليفة في الأرض، كما يقول المسلمون، وخلقه الله على صورته، كما يقول النصارى، ولكن، ولأمر ما جنحت بعض المراكب بعيداً عن مسارها المفترض، وأسلمت قيادها للموج يمضي بها إلى جهة أو أخرى، فضلَّت البوصلة، وعاد السؤال مرة أخرى، ولكن تلك المراكب الجانحة مازالت توغل في جنوحها، ولا تعلم أن ذلك الخليفة كان عليه أن يحتفظ بمادية الخلافة تلك ولا يبتعد أكثر ليبحث عن خلافة معنوية أو روحية، وأن تلك الصورة لا يجب أن تدخل عالم المادة وأن عليها البقاء في إطار المعنى والروح لا أكثر، ولذلك فلا بدَّ من قراءة أُخرى لأحداث رواية لا بدّ أن أحداً ما سيكتبه لا ليوثق تاريخاً كان، بل ليحذف من الزمن القادم ما قد يكون..
بلا مقدمات جأر عبد الله الفرج: (ما عاد الأمر يحتمل، يجب أن يكون هناك حلٌّ، أي حلّ يا أخي، المهم أن نخلص من قطار الشرق الصريع )، ورفع برهوم القصاب رأسه قليلاً، وكان برهوم هذا معروف ببرودة أعصابه وهدوئه التام في معالجة الأمور، وهذا ما حدا بصديقه شاكر البيضة أن يلقبه بالدبلوماسي، لقد قال برهوم متسائلاً بعد أن رفع رأسه كما أسلفنا: (أيَّ قطار؟!)، وبذات النبرة أجاب عبد الله، وفي الحقيقة كان لا يريدها إجابة ولا توضيحاً إنما كان من المفترض أن تكون تتمة لحديثه الذي يجب على الجميع أن يفهموه على مختلف مستوياتهم الفكرية والطبقية، لقد قال:(قطار مشاكل هذا البلد، بلدنا المبجّل، بلد الصمود والتصدي والبطيخ والحكي المصدّي..)…
لم يضحك برهوم، ولم تغيّر العبارة الأخيرة لعبد الله شيئاً يُذكر في نبرة صوته أو انفعالاته بشكل عام، على الرغم من أن الرجل أرادها قنبلة خارقة حارقة في ماء كان يرى أنه ليس راكداً فحسب، بل منتناً حتى القرف، ولعل الأغرب في الأمر أن أحداً منهما لم يلتفت إلى الجهات الست أثناء ذلك كما هي العادة الدارجة عند أبناء البلد، وهذا ما نسف القول الذي كاد أن يكون ذا قدسية (الحيطان لها آذان)، وبلا أية دلالة على أن الكلام في دائرة الممنوع أو أنه اختراق تام لركن أساسي من أركان الـ(التابو) ، وخوض في حرمة الخطوط الحمراء، قال برهوم: (كثيرة هي مشاكل البلد، أكثر من قمامة الشوارع، ولا أظن أنّ عاقلاً له القدرة حتى على التفكير بحلّ، لقد أصبح الفساد بعضاً من تراثنا المجيد، فما الذي جدَّ في الأمر لتفكّر به وبمثل هذا الانفعال؟)…
قال عبد الله: (الأمر لا يتعلّق بما كان، بل بالمستجدات، مشاكل من طراز آخر، وكأننا بحاجة إلى مشاكل جديدة، وسأضرب لك مثلاً صغيراً على ذلك، فيا أخي كلّ بلد في العالم، أقول لك كلّ بلد في العالم كلّه، يريد التخلّص مما لديه من لحوم فاسدة، وبدلاً من أن يتمّ إتلافها كما هو مفترض تتحوّل بقدرة قادر إلى أسواق بلدنا تحت شعار، لحوم مستوردة، وانتبه إلى أن بلدنا من البلدان الأكثر إنتاجاً للحوم البقر والغنم والدجاج وغيره، وبالرغم من ذلك فاللحوم المجمّدة، والتي يقولون إنها لحوم مستوردة تُغرق أسواقنا ولا أحد يعلم مصدرها أو الأمراض التي يمكن أن تنتقل خلالها، وأقسم لك أنّ الجراثيم والبكتريا تكاد تطلّ من جلالة اللحم المهرّب ولا أقول المستورد، فقد اكتفينا من الكذب وقلّة الشرف)، وتدخَّل شاكر بيضة الذي وصل إلى المكان في منتصف كلام صديقه عبد الله: (لا أعرف، أرى أنّ كل شيء في هذا البلد غلط، يكاد راسي ينفجر حين أحاول أن أتبين ماذا تفكر به حكومة هذا البلد، ولو استثنينا براعتها في صناعة الفساد والمفسدين لكانت الانجازات صفراً لا أكثر)، وعلّق برهوم القصاب بنوع من التهكّم المبطَّن: (لا تظلم الحكومة، إنجازاتها لا تخفى على أحد، لم تكن معنا من أول الحديث، أقصد عندما تحدثنا عن المنجزات في مجال القمامة والزبالة، والله بلدنا صارت أكبر منتج ومستورد للقمامة)، ضحك شاكر بمرارة من مجاملة صديقه برهوم، وشاطره ذلك عبد الله الفرج، وبعد أن التفت خلفه وتأكّد أنّ لا أحداً يستمع لحديثهم، قال: (يا جماعة، بالفعل شر البلية ما يُضحك، كانت مصيبتنا بوزارة التموين وما تستورده من نفايات وقمامة، حتى صارت أسواقنا وبوادينا وسهولنا وجبالنا حاويات للسموم ومستودعات للقمامة والزبالة)، قال برهوم: (يا رجل، لا تقسو على الجماعة كثيراً، يمكن أن يكون ذلك ضمن الخطط الاستراتيجية لنهوض البلد من ركوده…)، وقاطعه عبد الله الفرج قائلاً: (ما شاء الله، فعلاً خطط عظيمة يا أبا البرّ، لكي يكبر رصيد فلان وعلان صارت بلدنا مسخرة، وكم تحدثنا فيما سبق عن اللحوم الفاسدة، لحم غنم، بقر، كلاب، حمير، ولكن المصيبة صارت أعظم من جراثيم وبكتريا، انزل يا أخي إلى وسط البلد، “بستان كليب” تحديداً بعد الساعة التاسعة ليلاً سترى نوع آخر من اللحوم الفاسدة، روسيّ، أوكرانيّ، عربيّ، أجنبيّ، كلّه للبيع في مجتمع الأخلاق والفضيلة..)، وضحك برهوم القصاب بصوت عال، مما لفت انتباه رجل يجلس على بعد أكثر من عشرة أمتار عنهم، وهذا جعل شاكر البيضة يعض على شفته ثم يغمز لصاحبيه بعينه ويشير نحو الرجل، وحين تأكد الجميع ان الرجل غير معنيّ بهم وبما يتحدثون به تابع عبد الله قائلاً: ( على كل حال ليست مشكلة إذا كانت تخصّ اللحم وحده، سواء ما نراه في دكان الجزار أم في ملاهي بستان كليب كان من الممكن تحمّل ذلك، فقد تحمّلنا في هذا البلد الكثير، وقشّة أخرى لن تقصم ظهر البعير، دعنا نتحدّى الأمثال والأقوال، لا بأس في ذلك ولكن ما رأيك في أن السلاح الذي تستورده بلادنا والذي ندفع له دماء قلوبنا ثمناً ما هو إلا نفايات سلاح تتخلّص منه الدول الكبيرة وتقبض فوق ذلك ثمناً له بالعملة الصعبة أقصد “الدولار”، نعم إن ما يدعي زعماؤنا أنه سلاح هو بالفعل مجرّد خردة، نفايات لا أكثر، إنه منسّق منذ عشرات السنين ولا يصلح إلا للصهر وتحويلة إلى أي شيء ينفع، والغريب أنهم عندنا هنا في البلد يتباهون بامتلاكه ويلتقطون الصور بجانب الدبابات والمدرعات التي يسمونها حديثة وهي في الحقيقة لا تفرق كثيراً عن دبابات موسيليني التي كان يطارد بها عمر المختار وجماعته في ليبيا قبل حوالي سبعين أو ثمانين سنة، تذكرت الدبابات التي شاهدناها في فلم عمر المختار الذي عرضه التلفزيون ، هذه التي أقصدها، بالفعل لا تفرق عن دباباتنا “الحديثة” شيئاً، وانتبه يا أخي إن كلمة الحديثة موضوعة بين قوسين، نعم، والطائرات والصواريخ والسفن الحربية وكل الأسلحة التي نستوردها لا تنفع إلا للصهر وإعادة التصنيع من جديد، بالفعل صارت بلدنا مجمع نفايات، بالفعل مجمع نفايات، حتى النفايات النووية، انتبه يا أبا البُّر حتى النفايات النووية، يعني الذرية، وجدتْ من يحملها من شرق الأرض وغربها ويدفنها في تراب بلدنا، هكذا على عينك يا تاجر، وكأنه يظنّ أنّ الناس عميان ولا أحد يرى، يا أخي أحلقُ شاربي إذا لم يكن كل الناس يعرفون الأمر بأدقّ تفاصيله، ويعرفون من الذي وراء وأمام إدخال تلك النفايات السامة، وأين دفنت، والثمن الذي قبضه المجرم، نعم المجرم بكل ما تعني الكلمة، كما يعرفون الثمن الغالي الذي سيدفعه المواطن الذي لا يعرف من أين يأتيه الهمّ، ولكن يا أخي لا أحد بإمكانه أن يفتح فمه بكلمة، وأنت وأنا نعرف السبب، وخلاصة الأمر أصبح بلدنا مجمع نفايات، بالفعل مجمع نفايات، ولم يعد الأمر يتحمّّل أكثر من ذلك)..
توقف عبد الله عن الكلام، ملتقطاً أنفاسه من جهة ومنتظراً معرفة مدى تأثير كلامه على برهوم، وربما على أشخاص كان يعرفهم جيداً وكانوا على بعد خطوات قليلة من موقعه وموقع برهوم القصّاب، فقد كان يرفع صوته عند بعض الجمل بشكل واضح وهذا ما أوحى بأنه يريد لكلماته تلك أن تبلغ أسماعهم، ولا أحد يمكنه أن يتكهّن لماذا كان عبد الله يتعمّد فعل ذلك، حتى برهوم نفسه برغم أنه لم يكن يظهر أية مبالاة بتصرف عبد الله إلا أن أغلب الظنّ يذهب إلى أنه لا يعرف السرّ الكامن وراء ما يفعله عبد الله في هذه اللحظات رغم أن الأشخاص المقصودين لا يبدو عليهم أنهم يستمعون للحديث، وعلى ما يبدو فلا أحد منهم يملك رغبة متوقعة بالمشاركة بهذا الحديث الطارئ، بالطبع ليس بمضمونه وبعباراته ومفرداته بل بالأسلوب الذي اختاره عبد الله وبخاصة فيما يتعلق بنبرة الخطاب وجرأته وخروجه عن مألوف القوم، ولعل أحداً ما ظنّ أن الأمر تهوّر غير محسوب العواقب….
قال برهوم مستغلاً توقف عبد الله عن الكلام: (مجمع نفايات، تعبير بليغ ولا شك، ولكن يا صديقي يجب أن نتذكر بعض كلمات جارتنا الحاجة “ربّوع” رحمها الله، على كل حال أظنّ أنه كان يجب أن يكون أسمها ربيعة أو رابعة ولكن حضرة والدها رحمة الله عليه سماها هكذا “ربّوع” وكانت المرحومة جدتي تناديها “ربّوعة”، المهم ليس الاسم ولكن ما كانت تقوله عندما تسمع حديثاً كالذي كنا نتحدث به، أقصد حديث الشكوى والتبرم وما شابه ذلك، كانت تقول “لم تشاهدوا شيئاً بعد”، بالفعل لقد شاهد الناس وشاهدنا معهم أضعافاً مضاعفة من المصائب والبلايا وأشكال الفساد، بالفعل لقد تضاعفت تلك الأمور مرات ومرات عمّا كان في زمن جارتنا “ربّوع”، وكلما ظننا أن الأمر وصل إلى رقم قياسي تبين لنا أن هناك أشياء أخرى ستضاف إلى رصيدنا القذر من جديد)..
وجأر عبد الله مرة أخرى: (وماذا سنشاهد بعد، وهل يتسع البلد لنفايات أخرى؟!)، وهزَّ برهوم رأسه بأسف ثم قال: (لم نشاهد شيئاً بعد)…