ريان علّوش: دافع شريف
زي بوست:
في ثمانينيات القرن الماضي عملت كمدرس وكيل في مدارس قرى الشمال, ولا تحسبوا أن الأمر كان هينا, بل كان هناك صراع حقيقي على هذه المهنة التي غالبا ما يكون المدرسون فيها طلبة جامعة لجؤوا إليها كي يعولوا أنفسهم غير عابئين بالظروف المرافقة التي لا تراعي آدمية المدرس.
في ذلك العام تم قبولي في منتصف العام الدراسي, حيث تم تعييني في قرية لا تبعد كثيرا عن أقرب مدينة, وهذا ما استغربته حينها
عوملت في تلك القرية بحذر, وهذا شيئ طبيعي في قرى محافظة , لكن كان الأمر مبالغا فيه, ولم أعرف سبب ذلك التحفظ
بالقرب من مسكني الذي كان يتألف من غرفة واحدة لفت انتباهي الشاب الذي كان يقطن في الجهة المقابلة, كان في سني تقريبا, لكنه بدا مريضا, كان نحيلا غائر العينين, شعره ولحيته قد أطلقا بإهمال واضح, وكان يقضي أغلب أوقاته وحيدا يجلس في ظل شجرة التوت الكبيرة الموجودة في باحة منزله, و رغم أنه كان يتجاهل تحيتي, إلا أنني واصلت إلقاءها عليه, ولم أكن أعلم سبب إصراري ذلك
ذات مساء, وبينما كنت في غرفتي طُرق بابي, ففتحته وإذ بذلك الشاب, الذي دلف إلى الداخل بعد أن دعوته, و بعد أن جلس على الكرسي تمعنت به, بدا لي وكأنه في النزع الأخير فأرعبني ما لاحظته, ودون مقدمات بدأ الحديث قائلا: ليكن في علمك بأنني لم أكن كذلك فيما مضى, كنت شابا يافعا مليئا بالحيوية, مقبلا على الحياة بفرح وحب, إلا أن الظروف غدرت بي بقسوة
كنت منصتا جيدا له ولم أقاطعه, ليس لأنني كنت أريده أن يكمل حديثه دفعة واحدة فقط, وإنما لأنه كان يتحدث وكأنه يحدث نفسه ايضا
تابع قائلا: وفاة والدي جعلت مني المعيل الوحيد لأسرتي, وهذا الأمر اضطرني لترك مدرستي والسفر إلى لبنان حيث عملت في مهنة العتالة, و رغم قساوة العمل إلا انني كنت سعيدا, لأن عملي كان سببا لاكمال اختي دراستها, إضافة لتأمين دواء والدتي الباهظ الثمن, سنوات مرت على حالتي هذه لم أستطع خلالها زيارة القرية سوى عدة مرات, فباتت أخبار عائلتي بالكاد أعرفها, وذات يوم وصلتني رسالة تقول بأنه يتوجب علي الحضور في الحال, اقلقتني تلك الرسالة جدا, ولم تغب والدتي عن ذهني لأنني خمنت فورا بأن مكروها أصابها
في اليوم التالي حزمت أشيائي متجها نحو القرية, وعندما وصلت كنت ألقي التحية على المارة كالعادة, ولكن كانوا يشيحون النظر عني وكأني ارتكبت إثما, وحتى تلك اللحظة لم أكن لأعرف السبب, عندما دخلت إلى البيت بحثت عن والدتي التي ما إن رأتني حتى انهارت بالبكاء, سألتها عما حدث, وقبل أن تجيبني دلف عمي من الباب قائلا: لقد جلبت أختك العار لنا, لقد هربت إلى المدينة والله أعلم ماالذي تفعله الآن, العار عارك وشرف لك أن تغسله بيديك, ثم أخرج مدية كبيرة كان يستعملها لذبح الخراف
في اليوم التالي ذهبت إلى المدينة, وبعد عدة أيام علمت بمكان سكنها, طرقت الباب, ففتحت بعد أن عرفتها عن نفسي, وعندما رأتني كانت كالغريق الذي أتى من ينقذه, فتحت يديها لتعانقني, إلا أني عاجلتها بطعنة في بطنها, وأخرى في صدرها, ثم ثالثة لا أتذكر أين, كنت أتصرف كالمنوم مغناطيسيا, ولكن بعد أن رأيتها مضرجة بالدماء صحوت, وبكيت, بكيت حتى أغمي علي
خرجت بعد أيام قضيتها في السجن , فاستقبلني أهل القرية استقبال الأبطال بالزغاريد والأفراح, وفيما بعد بدأت تتضح لي الحكاية
هنا سكت قليلا كمن يسترد أنفاسه, ثم قال مبتسما: كانت أختي جميلة وذكية, أحلامها لا حدود لها, وكان شبان القرية يتسابقون لخطبتها إلا انها كانت ترفض واضعة إكمال دراستها نصب عينيها, هذا الأمر لم يعجب عمي, الذي خطبها لرجل عجوز قادم من الخليج, أو بعبارة أوضح باعها كما يبيع غنمة من أغنامه
تنهد الشاب بعمق قائلا: لم تجد أختي سندا لها سوى مدرس القرية الذي ساعدها في الهروب وتأمين مسكن في المدينة, ثم تابع بصوت متحشرج, وبدموع ملأت مقلتيه قائلا: روحها تلاحقني في صحوي ونومي, لن أسامح نفسي, لن أسامح نفسي, قالها ثم خرج من الباب جسدا بلا روح
في الصباح التالي استيقظت مذعورا على عويل والدته, فخرجت مسرعا متجها نحوها, وعندما وصلت كان قد سبقني بعض الجيران, وكانت بعض النسوة يهدئنها, بينما كان الرجال يضربون كفا بكف قائلين: لا حول ولا قوة إلا بالله
على غصن شجرة التوت شاهدت حبلا متدليا, وكانت بنهايته جثة الشاب, وعندما أمعنت به لم الحظ أي تغيير في سحنته, اللهم سوى عيناه اللتان بدتا أكثر اتساعا, لكن غاب عنهما الانكسار ليحل محله التحدي.