عجائز حارتنا (فصل من روايات بلد)

عجائز حارتنا (فصل من روايات بلد)

زي بوست: عبد القادر حمّود

(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، جملة تقليدية تستقبل بها عجائز حارتنا كل وافدة إلى المجلس منهنّ، بالطبع السابقات إلى الحضور يستقبلن بها المتأخرات منهن، وبرغم هذه الافتتاحية التي توحي بعدم رغبة بالقادمة إلى مجلسهن الموقّر فهي بالفعل غير ذلك، ولا أحد حتى تاريخ كتابة هذه الرواية يعرف إن كانت إحداهن لا تفضل الجلوس إلى الأخرى أو أن هناك مجموعة منهن تنظر بعين الريبة إلى واحدة أو أكثر، وكذلك لا أحد يعلم إن كنّ يحترمن بعضهن أو أنهن يشعرن بغير ذلك من مشاعر مختلفة تتراوح بين البغضاء والحب..
ولا أظن أن أحداً كلّف نفسه بتتبع الخطوط البيانية لتلك العلاقة أو العلاقات المختلفة، فعجائز حارتنا تشكيلة ربما كانت واحدة من تشكيلات عديدة تتشابه في طبيعة العلاقة وتختلف من حيث التوزع الجغرافي، أو أنهن تشكيلة فريدة من نوعها لا يوجد لها شبهاً في أي مكان آخر من الكرة الأرضية..
وبالنسبة إلى المجلس، فهو ليس مجلساً رسمياً كمجلس الأمن أو مجلس الشعب أو مجلس البلدة إنما مجرد ملتقى من المفترض أنه عفوي ولكن مع مرور عشرات السنين أصبح عادة لا بدّ منها، واتخذ صفة ما يمكن أن نقول إنها رسمية طالما أنه دائم الانعقاد على مدار السنة وإن اختلفت الأمكنة، ففي الفصول الباردة مثلاً هناك مكانان، واحد للأيام المشمسة ويقع تحت شباك جارتنا الحاجة (ربّوع)، وللأيام الماطرة أو التي لا يمكن الخروج بها إلى الشارع فاللقاء يكون في بيت الحاجة (رهجة)، والتي غالباً ما ينادونها أم محمد مع العلم أن اسم ابنها الوحيد (فارس)، أما في فصل الصيف تحديداً فاللقاء يتم على مصطبة الحاجة (جورية)، وللعلم أن تلك المصطبة بناها المرحوم (عبد المعطي) زوج الحاجة جورية في مكان ظليل أغلب الأوقات، وكان يتمنى أن تكون مكاناً مناسباً لراحته في الأيام الحارة ولكن مجلس عجائز الحارة أحبط مخططه بنسبة ما…
وإذا تجاوزنا جملة الاستقبال الغريبة وانتقلنا إلى لغة الخطاب بين أولئك النسوة نجد أنهن يستخدمن كلمة حاجّة قبل كل اسم مع العلم أن أغلبهن لم يزرن الحرمين الشرفين ويؤدين فريضة الحج، ولعل تلك الصيغة هي الأخرى أصبحت تأخذ الشكل الرسمي بعد أن كانت مجرد عادة وذلك لتواتر استخدامها ومرور أيام وليال لا يمكن أن تحصى على استخدامها بينهنّ..
قالت الحاجة (راجحة) وكانت آخر الواصلات إلى المجلس وهذا يعني أنها استقبلت بأكثر من سبع أو ثمان من جُمل الاستقبال المعهودة، بالطبع دون أن تصل إلى مسامعها أي من تلك الكلمات، فكل واحدة تقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بصوت خافت تحرص على أن لا تسمعه أقرب العجائز إليها، وبعضهن يكتفين بتحريك شفاههن أثناء ترديد العبارة، وقلما تجهر بها عجوز إلا في مناسبات قليلة كأن تكون العجوز التي في جوارها من خواصها المقربين جداً، على كل حال قالت الحاجة راجحة: (لا أخبئ عليكم يا جماعة، البارحة اشترى ابني سطام راديو، وسمعت بنشرة الأخبار عجائب)، ولوت الحاجة (خيرية) عنقها باتجاه المتحدثة وقالت: (راديو، شيء جميل، وماذا سمعت؟)، وهنا عدّلت الحاجة راجحة من جلستها وقالت: (أشياء، أغلبها لا تسرّ الخاطر، فمثلاً سمعت أن الحرب بيننا وبين اليهود طويلة والناس يموتون بالجملة، وأن أسعار السكر ستصبح أغلى مما هي عليه، وكذلك الخبز، ويا لطيف سمعت أن هناك مرض يصيب الماعز والغنم ينتشر في بلادنا بسرعة عجيبة، ويمكن أن تصاب مواشينا بذلك المرض)، ومطّت (أم تيسير) شفتيها بطريقة كانت تتقنها، ولا يعني ذلك اعتراضاً على كلمات الحاجة راجحة، إنما كان الأمر تمهيداً لتدخل مشروع في الحديث، وانتظار الفرصة المناسبة للانقضاض على زمام الكلمات، وحين سنحت لها الفرصة قالت: (لا يوجد شيئاً يسرّ، كل الأمور أصبحت أسوأ مما كانت عليه، سمعت أن الشرطة أخذت ابن أم أحمد من الحارة القبلية ولا أحد يعرف السبب)، وهنا انتفضت الحاجة (رمزية) وقالت: (الشرطة، ليت الأمر كذلك، الخبر الأكيد أن المخابرات هي التي أخذته، سمعت أنه يشتغل في السياسة)، وقالت عجوز أو أكثر: (يا ساتر)، وأردفت إحداهنَّ: (الله يعين قلب أمه، أرملة ربت أولادها كل شبر بنذر)، وهمست الحاجة (رهجة) بأذن أقرب الجالسات: (سمعت أن زوج فخرية بنت أم جابر يشتغل مع الدولة وهو من كتب تقرير بابن أم أحمد)، والتقطت إحداهنَّ طرفاً من الكلمات، فهمست: (بالتأكيد، زوج فخرية اختلف مع ابن أم أحمد أظن على طائر حمام، أو دجاجة لا أعرف، وصارت مشكلة بينهما، وابن أم أحمد بصق في وجه زوج فخرية، والثاني قال له سأحلق شاربي إذا ما جعلتك ترى نجوم الظهر)، وقالت الحاجة (رهجة): (لا أعرف أين وجدت أم جابر هذا المنظوم لابنتها، سمعت أنه أوسخ من الوسخ نفسه)، وقالت إحدى العجائز: (صهر الغفلة، لو بقيت فخرية على قلب أمها أفضل من زوج كهذا الذي لا أعرف بماذا سأصفه، كل النساء يتزوجن ويذهبن إلى بيوت أزواجهم إلا بنت أم جابر أتت بزوجها إلى بيت أهلها لا أعرف من أي بلد، ولا أحد حتى الآن يعرف من أي مزبلة نبشته المنظومة أمّ التي لا تسمّى، وكأن البلدة ناقصة زبالة، يا لطيف)، وهزت الحاجة رهجة رأسها وهي تقول: (بالفعل، صارت البلدة مجمع نفايات لكل من هبَّ ودَبَّ)، وعلّقت الحاجة (جورية) قائلة: (الله يرحم أيام الجراد والقمل والبراغيث، والله كانت العيشة أفضل من عيشة هذه الأيام، ما أحلى جرب تلك الأيام لو قارناه بجرب هذه الأيام)، وهزت أغلب العجائز رؤوسهن دلالة موافقة كلمات الحاجة جورية لما يدور في رؤوسهن التي لم تتعود كثيراً الخوض في أحاديث من هذا الطراز بعد أن تخصصن بأحاديث الشؤون اليومية والمفردات التي لا تتجاوز حدود حارتنا، وكمن لا يعني لها الأمر شيئاً تكلمت الحاجة (ربّوع)، فقالت: (لم نشاهد شيئاً بعد)…

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s