عماد أبو أحمد: ذاكرة الأنوف

عماد أبو أحمد: ذاكرة الأنوف

زي بوست:

كان ذلك حيا في مدينة لا يعرف الناس اسما واضحا له. بعضهم يدعونه “حي الحرائق” نظرا لنسبة الحرائق العالية التي تندلع فيه. كان حيا غريبا وأهله غرباء. يسكنه الهنود والأفارقة والعرب والأكراد وشرقيو أوروبا.كل ماكان يميزه هو صوت جهاز إنذار الحرائق الذي ينبثق فجأة خاصة في ساعات الفجر الأولى. كان صوتا يشبه وميضا مزعجا في جسد الليل.

فتح عيونه بكسل الساعة الرابعة والنصف.كان صوت الإنذار عاليا حادا كأنه ضربات سيف ساموراي. من شدة كسله أصر على أن يتجاهل ذلك الصوت.لكن نعاسه الخفيف جعله يصرخ فجأة وهو يلكم الوسادة بغضب: ليس مرة أخرى يا إلهي. نهض بقوة واتجه نحو الباب, ودون أن يرتدي ثيابه هذه المرة, خرج بسرواله الداخلي وشعره المنكوش وجفنيه المتكسرين , واكتفى بارتداء حذائه الأبيض الجديد الذي لم يلبسه حتى الآن.انطلق باحثا عن مصدر صوت جهاز الإنذار.لم يعد أنفه كما في السابق يبحث عن رائحة حريق محتمل, فلقد بات يشعر أنْ ليس هنالك بيت في المبنى يحترق.كل ما في الأمر أن جهاز الإنذار كان زائفا. ولكن لا أحد كان يمتلك طاقة لكي يشتكي لشركة الأجار صاحبة المبنى ويطلب منها تبديل أجهزة إنذار الحرائق, فجميع من يقطن في المبنى لايتكلم لغة هذا البلد الغريب الذي يعيشون فيه منذ سنوات طويلة. حتى هو نفسه الذي تعلم لغة هذه البلاد وأتقنها, قد بدأ بنسيانها شيئا فشيئا منذ أن انتقل ليعيش في هذا المبنى. كانت لغته تتلاشى كمذنب يصطدم في الفراغ المنتشر في أرجاء الكون.

صعد المبنى طابقا طابقا. كان صوت الإنذار يبتعد ويقترب في الوقت نفسه. شعر وكأنه في متاهة. اعترته رغبة بأن يقتل صاحب البيت الذي خرج منه صوت الإنذار. خرج إلى شرفة المبنى وراح يحملق في صمت, ثم انهال بالصراخ والشتائم. لعن المبنى والحي وسكانه, لعن الغربة والوطن, لعن الحديقة أمام المبنى, لعن الأرض والهواء والتراب والماء, لكن لم يكن هنالك من أحد ليسمعه.الكل غارق في نوم عميق. وبعد أن أنهكته سمفونية الشتائم, رجع مثقل الخطا إلى منزله. لم يزل صوت جهاز الإنذار يخترق الأجواء.أغلق بابه وارتمى على السرير دون أن يخلع حذاءه الأبيض. همس بصوت متعب: أكرهكم جميعا أيها الحمقى.وبعد أن رددها أكثر من مرة, استسلم أخيرا للنعاس.

في الصباح التالي كان المكان يعج بسيارات الإطفاء والشرطة والإسعاف. تجمع أهل المبنى في الطابق الخامس حيث كانت بقايا دخان الحريق عالقة في كل مكان. تهامس البعض في رعب: مالذي حدث؟ “إحدى الشقق احترقت في الليلة السابقة”. أجاب أحدهم.”وكيف لم يعمل جهاز الإنذار؟” “لم نسمع صوته مطلقا”.”لابد أن صاحب الشقة المحترقة قد عطل جهاز إنذاره”. “بعضهم يفعلون كذلك لأنهم يدخنون”. وراح الجميع يؤكد أن صوت الإنذار لم يعمل. إنهم في كل مرة يقولون ذلك بعد أن تحترق إحدى الشقق. لم يخطر في بال أحدهم أن جهاز الإنذار ربما قد طن ولكنهم هم الذين لم يسمعوه.

نجح عمال الإطفاء بالانتهاء من عملهم.وهنا جاء دور الإسعاف. أخرجوا جثة متفحمة لن يستطيع حتى أهلها التعرف إليها. كانت قطعة يابسة تفوح منها رائحة كريهة لن تنساها ذاكرة الأنوف. تلك هي رائحة الوحدة والعزلة التي كانت تعاني منها الضحية قبل أن يأكل جسدها الحريق الذي اندلع في شقتها.بعد أن استقرت الجثة في سيارة الإسعاف,نزع المسعف عنها بصعوبة بالغة حذاء أسودا ذابت كل معالمه , ثم وضعه في كيس بلاستيكي وهو يهمس: المسكين كان نائما بحذائه.

*مختارات

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s